مراسم دفن الموت

1K 37 31
                                    


تمت كتابة هذا النص في أغسطس 2013

_______________

تدقّ ساعة الأضواء في شارع يكتضّ بصمته و حركات الذّهاب و المجيئ, فتولد أغنية همسات و يصبح الرّكن المكسوّ بالتجاهل محطّة اهتمام رئيسية . من باطن الرّكن تنبعث أصوات لخطوات مجرورة و ظلّين : ظل لتراكم العصور و آخر لثورة طقوسها من رقصات . من تحت الظلال تظهر خيالات وجه رسمت عليه الأيام خارطة لأسرارها و معشوقة لا تشبه غيرها , كان يثبتها تحت حنكه و يحيط بقبضته كل أوتارها . يرمقها بنظرة صاخبة بالصّمت و نصف ابتسامة ثمّ يجرّ القوس بيده الأخرى على الوتر الأوّل و يستسلم لحكاية موسيقية بينها و بينه جثث سنوات خلّفها الركض السريع للوقت :

كان خريفا يتغنّى بحزنه و معرضا للذاكرة . أمام نافذة مشرّعة جلس على كرسيّه المتحرّك , أجلسها في حجره بحنو و ظلّ
يداعب ثوبها بحروف عالقة على أصابعه . على بطنها كان قد بعثر أوراقه الطبيّة كأنّما يسخر منها و انهمك ينظر الى تساقط أوراق الأشجار في الخارج . كان يخمّن أنّ في كل فعل سقوط تفر الشمس إلى مخبأ ما و تترك للأشجار بشاعتها , وحدها الريح تبقى تحاول جاهدة اسقاط ورقة أخيرة تشبّثت بغصن مازال يحلم بالحياة . فجأة , سمع طرقا خفيفا على بابه كان يتوقّعه ثمّ صوت دوران المقبض , لم يكلّف نفسه النّظر إليها فتلعثم خطواتها كان يكشف هويّتها . قال لها بصوت مجرّد من الإنفعالات :
" لقد حسم الأمر , لن أعاود الوقوف لذا يمكنك الرّحيل . "
ابتلعت أنفاسها و دمعة بين نظرة و نظرة , ببطء خطت نحو عودتها فقد أخبرها مسبقا ألاّ تمثّل في حضرته إحدى تراجيديات الوداع .
حرّك كرسيّه جهة مكتب تناثرت عليه مخطوطات موسيقية أعياها الإهمال . علّق على الجدار فوقه أوراقه الطّبية بقايا انكسار لوعد قتل و شغّل الرّاديو ممزّقا وجه الصّمت السّاخر ثمّ عاد أمام شبّاكه . كان الصّراع بين الغصن و الريح قائما , راهن على فوز الريح و طوّق النّائمة في حجره بذراعيه مستسلما لنوم مصطنع .

لمّا استيقض ثانية كانت الورقة الأخيرة قد سقطت عن الغصن و انضمّت ترقص مع الأخريات على احدى سمفونيات بتهوفن كان يبثّها الرّاديو . داعبته الموسيقى و غرقت به في ازدحام الثنائيات المتناقضة من حياة و موت , سقوط و وقوف , موسيقى و صمّ حتّى ضجّ فيه سؤال عابر : " كيف تصير النّهايات الحاسمة بدايات أخرى ؟ كيف يصنع رجل بعد الصّم موسيقى قاتلة ؟ " . نظر اليها , ابتسم بحماس و ربّت عليها ثمّ عاد معها إلى مكتبه , مزّق أوراقه الطّبية من الجدار و خربش على ورقة عذراء :" كلّما صار الموت خياري الوحيد , سألوذ بالحياة ."علّقها مكانها و غادر تاركا للغرفة وحشتها .

قصد بناية هرمة في حقل مهجور تخبّأ التاريخ في جوفها , قد تعوّد أن يزورها كلّما لبس حداده فقد علم منذ صباه أنّها مسرح للمقاومة و رحم الولادات الثانية. دخلها , كانت مظلمة بالقدر الكافي كي تحفظ أسرارها , لا منفذ للضّوء فيها سوى بعض ثقب بالجدران المتداعية أحدثها تآكل الزمن. سار بكرسيّه إلى عمق الغرفة ثمّ عاد إلى معشوقته يتفحّصها , أخرجها من علبتها ماسحا كالمعتذر تراكمات الغبار عليها و أطلق قوسه يراقص أوتارها , يهدر روحه في اللّحن حزنا كالحلم المهمل . كان ينقل خفاياه إليها و طيف دمعته يكاد يعمّدها لمّا انتبه إلى تسلّل خطوات واثقة خلفه , بعض أنفاس متقطّعة ثمّ صوت كمنجة أخرى اندمج و معزوفته . وفى لموسيقاه و انساب مع العزف الثنائي مسافرا نحو السكينة لكنّ اللّحن على أوتار الكمنجة الأخرى تصاعد فصدح عن الفرق نشاز خانق . ارتبك قليلا ثمّ حاول مجاراتها , فعادت الى التّصاعد المستمر فطاردها حتى صار العزف بينهما ركضا لذيذا , انسجم مع نفسه مرّة أخرى و مسحت النّشوة على روحه فانفجرت في كلّه الرغبة في الصياح و الضّحك الهستيري , لكنّ الكمنجة الأخرى انسحبت فجأة , فاضطرب و تلعثم قوسه فتداخل بين الأوتار و فقد المعزوفة دون أن يوقف العزف . اقتربت منه الخطوات حتى قابلته ملامحها الباهتة بقناع الظّلمة , انحنت له ثم همست في أذنه :" ألك أن تصنع السّباق وحدك ؟ ألك أن تفوز وحدك ؟ " ثمّ ابتسمت ابتسامتها المستفزّة و ابتعدت بضع أمتار عنه . أخذ نفسا عميقا و أغمض عينيه , ضحك و تمتم لنفسه : " ما دمت أؤمن بروح الكمنجة ." . شدّ على القوس و ركّز العزف حتى امتطى اللّحن ثانية . ضرب على الأوتار ضربا متسارعا عاد به إلى الصّعود و الصّعود حتى خلق من عزفه المنفرد موسيقى ثنائية , تضخّمت حتى تلاشت الأشياء حوله و تجسّدت روحا مقدّسة. تحوّل السباق إلى طقس عبادة يصبح الجلوس فيه كفرا و الوقوف فعل صلاة , ثم تحوّلت العبادة إلى صراع بين كمنجة تحاول رفعه و كرسي تحته يقيّده بسقوطه . واصل الصعود بالعزف فارتجف كرسيّه المتحرّك فارتعش فارتجّ حتى أذعن و استسلم , و تقمّصته الموسيقى , أقامته ثمّ دفنت الموت في ساقيه و رفعته تدريجيا جهة السماء . عندها عادت الكمنجة الأخرى إلى العزف رفقته , أنزلته ببطء حتّى ثبت على الأرض و استقرّ النّغم . عاد يسمع نبضه المتسارع , فتح عينيه و حملق فيها : كانت ساعة الأضواء قد دقّت عندها و تسرّب النّور من ثقوب الجدران تقاطع حيث وقفت و رقص في حدقتيه . عزفا لحنا مرحا و تبادلا الابتسام ثمّ بدأ بالسير نحوها مدركا أن لا شيئ حوله يوحي بالسقوط , لا كرسيّه المتحرّك المهجور في الظّلمة تسخر السنوات منه , و لا العكّاز الهرم بين ساقي عازف الرّكن العجوز و لا حتى صهيل الكمنجات.

______________________

صبرين المالكي

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن