نهايات آذار، بدايات إبريل، موسم الحزن الثقيل.
في أيام كهذه، قبل عام مضى، مات البنفسج في الحدائق، وأنا اعتقدت أنني لن أستطيع التنفس.
قبل عام وقفت هنا، في هذه الغرفة ذات الستائر المشمشية، النافذة الوحيدة مغلقة ومثلها كل معابر الضوء. صوت ريم بنا يتكرر دون انقطاع:" يا ليل ما أطولك!". و شيء من الدمع ينهمر صامتا على وجنتي، كان وجعا ثقيلا، كان ليلا طويلا لا يقطعه صباح.
عيناي ترقبان الهاتف دون توقف، انتظرت ظهور رينا بشيء من الحرقة، ساعة من البوح كانت ستكفي ليبزغ خيط الفجر السعيد، كنت أقول ستظهر في أية ثانية، العالم العربي كاملا اهتز للفاجعة، ورينا تدرك جيدا حجم تعلقي بريم بنا. كنت أحب الناصرية فيها، الكحل الغامق والكوفية الفلسطينية والحلي العتيق، ألوان خيوط الشمس والخواطر الرقيقة والصوت العميق كالصدى والابتسامة الثائرة على كل شيء، سرطان الوطن وسرطان الجسد.
كنت أريد أن أقول كيف ريم علمتني أن الموت لا يقدر إلا على المتخاذلين المستسلمين، وأن المقاومة تقضي حتى على أعتى السرطانات، وأن الحروب الشنيعة التي نخوض فيها تجعلنا نمتد أكثر من كل الحياة، لا أحد يقتله المرض بقدر ما يقتله اليأس الثقيل. ولهذا فقط، حين ماتت بدا ضربا من المستحيل، شيء شبيه بذاك السؤال: كيف يموت الذي أقنعنا بأن للموت أيادٍ قصيرة إذا ما زأرنا رحلت بعيدا؟
الموت لا يقتل إلا الذين مضوا دون صوت أو رائحة.
إنكم حتما تعرفون نهاية القصة، لم تعد رينا ولم أقل كل هذا... نهايات آذار وبدايات إبريل، أخذت رينا معها إلى السماء، أخذت شعلة الحب الأول أيضا، أخذت كل الأصدقاء الذين عاهدوني على البقاء، كسرت كل الوعود، خرقت كل شيء، أحرقت كل زهر الحدائق!
لا داعي للعبوس، لقد مر عام الآن وأنا لم أمت، عاد البنفسج للتفتح في بعض الأماكن، وبقي في صدري معبر يسمح بمرور الأكسجين إلى الدم، آخر يسمح بتسلل الأحلام رويدا ومعبر ثالث صالح للابتسام. ستائر الغرفة مازالت مشمشية والنوافذ مشرعة حتى آخرها والشمس الحارة ترقص كالعذارى هنا، محمود درويش يصيح بإلقاء شاعري: لعلنا لم نفترق أبدا!" ودون الحب الأول يوجد ثان وثالث ورابع، الحب لا يعرف رقما واحدا ورينا لا تموت إلا إذا اكتأبت.
لا شيء منع براعم التوت عن التفتح هذا الصباح، لا شيء منع الربيع عن زيارة آذار ولا حزن يبقى أبعد من عامه الأول. إنني أكتب الآن رسائل للغد وأعلم أن شيئا عظيما ككل الأمنيات المستحيلة على وشك الحدوث.
نهايات آذار، بدايات إبريل، موسم الفرح الجميل.
25/03/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.
