الطقس يشبه ليلة قارسة البرد من ليالي ديسمبر، والمكان شبيه بمناطق أحد القطبين، الأرض تخلو من البشر وتكتض بالثلج. في رقعة لا يعرفها أحد إطلاقا حيث لا أعتقد أن أحدا قد بقي على قيد الحياة أصلا، أستلقي عارية على البساط الأبيض المتجمد، الألم يلسع أطرافي وأعماقي، وداخلي ساكن مستسلم، أتأمل تخبطات الشفق بالسماء ولا يخطر لي شيء محدد...
أتساءل فقط، لماذا هذا العالم المعقد، ملايين السنوات من الصراعات المستميتة منذ قابيل وهابيل، التطور والتدمر والمعارك البشعة القاسية، وفي النهاية يموت الإنسان فقط وتندثر البنايات العالية. هذا البرد الشديد يصيبني بالخدر وعقلي لا يعمل على النحو الصحيح، هل بقي بشري غيري هنا؟ وإن بقي وإن التقينا، هل يحطم هذا الثلج الثقيل الذي التهمني أم يغمد سيفا حادا في قلبي فيقصيه؟ القتل أسهل من الإحياء حتما، الإنسان كائن أناني مدمر فقط، إن بقي بشري واحد هنا فإنه سيكون بلا شك مثقلا بالألم، مشوه الدواخل، مهشما حتى النخاع، مصروعا ومقهورا يبحث عن شيء يحطمه فيصدر آهة تشفي غروره، تقنعه بأنه متمكن جدا ومقتدر، أقوى من كل حطامه.
أعتقد، إن بقي بشري واحد حي هنا، فإنا لن نلتقي حتما، سيكون منشغلا بماضي الإنسان القديم وبالذكريات التي لا تغير شيئا، يبكي في جحر ثعبان مظلم ويمزق جلده ويحاول الانتحار مرارا فلا يستطيع، وأنا منهكة جدا كي أستطيع القيام والمشي الآن، ربما في وقت لاحق؟ حين يصبح المكان دافئا قليلا؟ ربما..؟ إن استطعت السير حقا وإن كان حقيقيا في مكان ما أظنني سوف أعانقه فقط ثم أخفف عنه عبء الوجود، ولن أقول بأي شكل كان بأنني ولأنني الباقية الوحيدة مثله فقد فقدت قدر ما فقد وانسلخت دواخلي قدر ما انسلخت دواخله، أظن أنني سأتفهم كل هذا، ولو كان بيدي دواء وقتها سأسكبه في جوفه، فقد يلتئم فينا الوجود معا...
إن استطعت السير حقا، ولم أمت خلال دقائق، إن استطعت السير فقط...
هل يعقل أن هناك بشريا غيري على هذه الأرض؟ لما تستحيل الحياة دون بشر وتفقد الأشياء قيمتها الحقيقية؟ نملك كل شيء ولا نملك منه شيئا. أعتقد أن قيمة الأشياء تكمن في مدى رغبتنا في امتلاكها جميعا، في التحدي المشين ومقدار الغرور الذي يغمرنا لما نستطيع أخذه دون غيرنا، وإلا فالأشياء بلا قيمة أصلا. هل يعقل أن بعضنا دمر بعضه من أجل أشياء بلا قيمة؟ وماذا لو امتلك أحدنا حجرا وامتلك الثاني طينا فوضعنا الطين على الحجر وبنينا بيتا جميلا يقينا من زوابع ديسمبر، لماذا يقاتل بعضنا بعضا لكي يأخذ فرد واحد وحده الحجر والطين، لكي يعيش وحده في البيت اللطيف ولكي يموت الآخر متجمدا في العراء، فإذا ما مات حقا هرع الأول يبكيه..؟ يا لهذا السخف.
أيمكن أن يعيد الله البشر إلى الأرض مغيرا في تركيبتهم القبيحة هذه؟ أليس يحيي العظام وهي رميم؟ أيمكن أن تحدث معجزة ما قبل أن أموت؟ أيمكن إن بقي بشري وحيد غيري هنا أن نلتقي ونعتبر من الذي حدث فنبني عالما حرا جميلا، نعلم الجيل الجديد ما لم تعلمه حواء وزوجها لقابيل وهابيل؟
يا الله...أشعر بالنعاس الثقيل وهذا البرد لا يطاق، أتخيل أن ظلا يقترب مني ولكن رغبتي في النوم باتت أقوى من كل فضولي.
يا الله... عانقني، عانقني فقط، وليغمد سيفه في صدري!
14/04/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.