النافذة مفتوحة أمامي رغم البرد الرقيق والظلام، أضواء الغرفة مطفأة والشارع الفارغ خلفها يتوهج بشعاع أصفر خافت وجميل، هناك سمفونية تعزفها الطبيعة تحتاج قلبا واسعا كي تتضح، نباح بعيد جدا لكلاب الشوارع يختلط مع عزف الصراصير ورفرفة الأغصان ونفخات النسيم العليل وضجيج بعض الطائرات التي تمر من حين إلى حين مغيرة في الإيقاع. لأنفاس الكائنات النائمة وأحلام الصغار صوت شبيه بتأوهات الكمان أيضا، دعني لا أنسى المطر الخفيف، المطر هو العنصر الأساسي في لوحة هذه الليلة وإلا لما توهجت هذه المشاهد في صدري.
كل النساء تحببن المطر في الحقيقة والفضل يعود لمشاهد بوليود الدسمة وهوليود الرقيقة، روايات عبير ربما وبعض الأشعار الغزلية الباذخة، المطر مرتبط بصورة الحب الذي لا يتكرر إطلاقا ويستمر في أحلام الصبايا حتى الشيخوخة. أحب المطر لأنه يسمح للشوارع بأن تغدو فارغة تماما، الكل يهرب منه في الواقع وهذا جميل، كلما هطل المطر هكذا أشعر أنني امتلكت الحياة لأني أبقى وحدي أسير بهدوء بين الطرقات، أحبه أيضا لأنه يشبه قلبي إلى حد ما، مغر جدا، ساحر وجميل ورقيق ومشتهى... ولا أحد يستطيع احتماله، الكل يهرب منه هكذا مع أنهم يحبونه، يكتبون فيه قصائد وكلمات رنانة.
أحدق في الشارع الفارغ وأرانا الآن، نتمشى ببطء في نهايته متعبين مثقلين بالهواجس والأفكار والأحلام، أعيننا تراقب السماء الشاسعة وأصابعنا تداعب قطرات المطر التي انزلقت على وجهينا، هناك مسافة مناسبة بيني وبينك، مسافة ذكية تسمح لنا بأن نبقى أحرارا مستقلين رغم كل شيء وتسمح للخيال المطلق بالتجسد هاهنا. أحمل كمانا على كتفي الأيمن وتحمل أنت قيثارة على كتفك الأيسر، أنشغل بقطعة المثلجات بين يدي ، تلقي أنت نكاتك الطريفة حولي وحول عزفي السيء منذ ساعات فأنفجر ضاحكة بصوت عال لكنك توشوش لي بأن أصمت قبل أن أوقظ الجيران فيساء فهمنا، الساعة تشير إلى الثانية ليلا وتجول شاب وفتاة في هذا الوقت لا يعتبر فعلا حميدا، لا أقاوم حسك الفكاهي على كل حال.
أهز كتفي بغرور وأقول بتلك الثقة المبالغ فيها أنني ذات يوم سوف أقف على ركح عظيم جدا في قاعة شاسعة ذات طوابق تبلغ أطراف السماء وتعج بكل سكان الكوكب، وسوف أعزف وحدي كنتاتا "كارمينا بورانا" كاملة على أربعة أوتار لا أكثر، وسوف أغدو وحدي أعظم من أعظم أوركسترا أدركها التاريخ، وستشاهدني عبر التلفاز الصغير مع أطفالك العشرة وستكون أصلع ذا بطن منتفخة بسبب الشرب، تخبر ابنتك الكبرى أنك تمشيت معي ذات زمان بعيد جدا في شارع لئيم كهذا من شوارع أريانة. تتمادى معي في سخريتك وتجاريني بشيء من الاستخفاف وأنت مؤمن في داخلك بأنك ومنذ الآن أعظم أوركسترا بشرية تشهدها الأرض وتعلم مسبقا أنك وإن لم أقلها بشكل مباشر، مقطوعتي الموسيقية الأفضل.
أصمت قليلا، فكرة أن تكون مؤقتا هكذا وأن لا تكون حاضرا حضورا صاخبا في المستقبل البعيد دون أخذ الصفة بعين الاعتبار فكرة مرهقة جدا لو كنت تعلم، أضعها في بدايات الأفكار وفي إطار خاص كي تبقى بارزة جدا. اعتدت على غياب الأحبة غيابا فجائيا قاسما للروح ولم أجرب بقاءهم يوما، أعلم مسبقا أنني وذات ليلة باردة وممطرة سأجلس في غرفتي المظلمة وفي قلبي الدرك الأسفل من الجحيم، أفتح رسائلنا القديمة وأبكي دون صوت ولا أجرؤ على محادثتك، لطالما كانت الحياة هكذا، نختبر الفقد في أثمن ما نملك، وأنت أثمن ما لا أملك، لا يمكن أن يفقد الإنسان ما لا يملك، أليس كذلك؟
تلاحظ أني تكدرت، تقاطع لحظة الصمت العميقة مشيرا إلى بقايا المثلجات حول فمي فأرفع نظراتي نحو عينيك، أبتسم بخبث ثم أمسح البقعة بإبهامي وأضحك، تشيح بعينيك جهة السماء وتلبس ملامح جادة، أضحك بصوت أعلى، تأمرني بأن أخرس أفكاري لأنك تسمعها جيدا، أخبرك بأني أضحك لأني أسمع ضجيج أفكارك جيدا، تدافع وأدافع، نضحك سويا ونتحدث عن مخططات يوم غد وعن شعورنا الشديد بالتعب.
نصل إلى بيتي، أقف وأسند ظهري على عامود الكهرباء وتقف بعيدا لتودعني، تضع يديك في جيوبك وأرفع رأسي جهة السماء، آخذ نفسا عميقا جدا وأشعر بكثير من الامتنان تجاه الله والحياة ثم أودعك. تمضي قاطعا الشارع وحدك، أتأملك، أتذكر أن هذا الوقت سيمضي، سيمضي سريعا جدا ليأتي وقت آخر أشتاق فيه بشدة إلى خطواتك وإلى صوتك وطريقتك في المزاح وفي انتقاء المفردات وفي النظر والتفكير وإلى جملة الأشياء غير المثالية التي تصنع منك رجلا مثاليا جدا. تغمرني غيمة من الحزن وأنا أستحضر كل السيناريوهات التي قد تقذفنا إليها الحياة بعد أن يبتلعك هذا الشارع الطويل، أعلم أنك ستواصل المسير دون التفات وأعلم أنك لا تقلق مثلي وقد لا يحدث هذا الزمن أي فرق عندك أساسا، أعلم أنك لن تجلس في غرفة مظلمة والدرك الأسفل للجحيم في قلبك، تعيد قراءة محادثاتي وتشعر بالحزن، وأنك قد لا تفتح التلفاز أصلا في ذلك اليوم الذي أصبح فيه أسطورة دنيوية عظيمة وقد لا تتذكر اسمي حتى...
أضع في هاتفي "la bohème" لأزنافور بصوت مرتفع جدا ثم أركض نحوك فاتحة ذراعي كنورس ثائر وأضحك ملء الفؤاد، تسمع ضوضائي خلفك فتلتفت مستغربا، أسبقك وأخبرك أن عمر العشرين لن يبقى إلى الأبد، لن نكون أحرارا هكذا إلى الأبد، أتفادى أن أقول أننا لن نكون معا وبهذا الاندفاع والجنون والهوس إلى الأبد. الليل لنا والمطر لنا، وشوارع المدينة الفارغة لنا، وكل القصص التي لم تُكتب بعد لنا، وإن كنت لا تلتفت فأنا لا أمانع أن أجري أمامك، لنكن سعداء فقط لأن هذا الوقت سيمضي وقد أشاهدك بعد سنوات طويلة على أعظم ركح تعزف موسيقى الجيل القادم، وسأحب أن أقول لأطفالي العشرة أنك كنت أكثر لحظات جنوني تطرفا.
تفتح ذراعيك كنورس ثائر أيضا وتركض خلفي، تسبقني، تضحك وتصدق أنك ملك الليل وأصدق أني أنتمي لك وينسى كلانا أن هذا الزمن سيمضي سريعا.
27/04/2019.
02:36 am.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.