صلاة

53 3 0
                                    

صوت الصلاة الهارب من المآذن يبدو  شهيا الليلة، أعذب من تراتيل الكنائس ودقات أجراسها وأنقى من كل زجاجها المزخرف وأثمن من كل نقوشها الباذخة. زرت كنيسة واحدة طوال حياتي، تملكتني وأنا أخترق حدودها رهبة  وخشوع لم أشهد له مثيلا يوما، اشتهيت لو أموت هناك لكي أحتفظ بذاك الشعور المقدس إلى الأبد. تخيل لو حدث هذا حقا؟ مسلمة محجبة تخر ميتة أمام تمثال العذراء، سيضج الخبر في كل ربوع العالم وستبقى الصورة عالقة في بعض الرؤوس لسنوات، ربما تخرج بعض الفتاوي الجديدة والنقاشات الدينية التي لا طائل منها، الأمر الذي لن يحدث لو تكررت الصورة ذاتها داخل مسجد أنيق. مررت أمامها عديد المرات لاحقا ولم أدخلها، لكنها شدتني إليها بقوة ورغبت فيها بشدة، رغبت بالصلاة هناك كما لم أرغب يوما، وهذا لم يحدث مع أي مسجد قط، لا أذكر متى زرت مسجدا لآخر مرة حتى، ولم ينتبني شيء من الفضول وأنا أدخل جامع عقبة أو الزيتونة أو غيرهم. أنا مسلمة حتى آخر قطرة دم يا صديقي، حتى آخر قطرة دم، لكن قلبي مركب هكذا.

لم أدعك لأحدثك عن المساجد والكنائس على كل حال، تحمست لا غير وخبأت لك بين الكلمات سرا عظيما نظرا لنقص البيانات عندك لن تعرفه، حتى وإن قرأت المقطع آلاف المرات. ولا يهم كثيرا أن تفهم كل شيء، بعض الكلمات تُقال لغير موعدها أحيانا، بعض الحضور نثريه ونطنب فيه كي ينبت في الغياب. هل تريد سيجارة؟

اشتريت سيجارة ذات مرة ثم لم أدخنها ولم أحطمها، اعتقدت أنني سأحب أن أخلق مشهدا دقيقا كالذي أهوى كتابته، شعر أشعث وغرفة فوضوية ودخان سجائر... لكنني لم أفعل. ستكون جيدة لك مع القهوة. أي نوع من القهوة تريد؟ سوداء مرة؟ أم حلوة؟  أم تفضلها مع الحليب؟ هل تشرب الحليب أصلا؟

من حسن الحظ أن الجو ممطر، الإضاءة صفراء خافتة جدا والشارع الأمامي فارغ تماما، ينقصنا فونوغراف واسطوانة عملاقة لسيمفونية ضوء القمر لبيتهوفن. هذا سخيف، تخيل أنك ترتدي معطف كاشمير أسود وقبعة طويلة ولديك منديل جيب أحمر يتناسب مع ربطة العنق. يا للهول، هذا المشهد لا يشبهك أبدا، تبدو ك"جيري" حين يحاول انتحال شخصية توم. لنرمي القبعة بعيدا ثم نجعل المعطف سترة قصيرة، لا وجود لربطات العنق، لا تبدو كرجل ارستقراطي على كل حال.  سوف أرتدي فستانا أسود فقط، لا تفاصيل إضافية، وسنتحرك عند الشرفة حول طاولة القهوة ببطء شديد جدا لكي نحافظ على كلاسيكية المشهد. 

لماذا دعوتك الليلة؟ أظن أننا لم نتحدث بعمق منذ وقت طويل، ولكنه أمر غير مهم، أنظر أنا أبتسم لك الآن. لم أفتقدك ولم أحتجك إطلاقا، لا تنظر إلي مشككا ولا تضحك هكذا.  خطرت لي الكثير من الأفكار التي لم أكن سأستطيع أن أناقشها مع شخص عداك فناقشتها مع نفسي، أفضل من بدء حوار عقيم معك في الوقت الخطأ ثم الشعور بانعدام الراحة. كنت أريد أن أخبرك عن كم التغيرات داخلي دفعة واحدة وبحماس، لأنه ما أشعر به، الحماس والاندفاع تجاه أشياء لم أكن أراها، بفضلك غيرت الزاوية التي أنظر منها إلى الحياة وأعدت تركيب قطع الفسيفساء الناقصة  وترميم بعض الأركان المهترئة ثم كرد فعل إنساني أحببت أن أسحبك من يدك لأقول لك أنظر إلى ما توصلت، إنك ملهم عظيم حقا، ولكنني لم أفعل والآن وأنت تقف أمامي صامتا مترقبا لكي أخبرك عن كل ما يجول بخاطري لا أشعر برغبة في مشاركتك ولا حتى في محادثتك ولهذا فكل ما أقوله هرطقات عشوائية ومشاعر لا وزن ولا قيمة لها. إن كل المشاعر التي أحملها في داخلي في اللحظة الراهنة بلا قيمة ولا مغزى ولا منفعة منها، تحتاج أن أجمعها في أقرب وقت وأرميها في أقرب مزبلة وأترقب من الحياة أحاسيس ذات وقع وقيمة. مالفائدة من حب وجوه طواها الزمن مثلا؟ أو التعلق بوجوه لا شأن لنا بها؟ تعلق مسلمة بكنيسة مبهرة مثلا؟  مضيعة للجهد والطاقة، ألا تظن؟ إنني أنظر الآن إلى الأمام فقط، وأمامي توجد صفحة بيضاء لم يكتب فوقها حرف أستطيع ملأها بخرابيش جديدة أشد ابتكارا واختلافا وإبداعا. الحيرة ممتعة أحيانا.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن