حنين

202 10 6
                                    

مازلت أحتفظ بصورة يتيمة لك في ذاكرتي، أجوب بها ثنايا الأرض شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وتذبل المشاهد كلها رحلة إثر أخرى، عداك تبقى ثابتا شامخا كالصخر. مازلت تقف هناك عند الزاوية ملطخا بالحياة، تتغنج على شفتيك فرشاة المرسم ويفيض العشق عبر أناملك كالنغم الحزين، نغم خريفي الألوان مسلوب الأماني.

مازلت أسمع في صمتك المكابر ذاك صراخك المر، وأستشف من دقاتك المضطربة حين تكتم عبراتك أنينا كنفخات النايات الحزينة. مازلت أبكي -كلما هبت الذكرى- قلبي العقيم وآهات روحي كلما آلمت نفسك وهزات قلبك كلما التففت حولي واعتنقت الهروب سبيلا.

مازلت رغم كل ما مر بيننا من سنوات، ورغم الغياب ورغم العذاب ورغم العتاب، أصارع جسدي عند بابك عساه في إحدى لحظات التذكر يبقى، عساني أخون الحقيقة وأقلب التاريخ وأتمرد على خط الزمن وخط المنطق وخط القدر وخط الاختيارات.. عساني أعود إليك، إلى كل قطرات العرق التي تساقطت على وجنتيك، إلى كل أنفاسك الباردة والملتهبة، إلى آثار السجائر حول أظافرك، إلى ارتعاشة جفنيك حين تغضب وحين تعبس وحين تكتم جرحي خوفا على نفسي من الانكسار. عساك تبعثر قلبي فتغدو دقاته أشد صخبا من نوتات بيتهوفن وهو يبعث بسمفونيته التاسعة إلى الحياة، عساك تغير وجه الخيال وتخاطر بالانسياب معي في تيارات الجنون بلا أشرعة، بلا خوف، بلا تردد، بلا تعثر وبكامل المجازفة والمجاز.

عسانا نكون معا مرة طوال عمر من الصراعات، من المد والجزر، من الدوران السريع حول محور بالكاد ندركه, ومن الانفصام والازدواج والنكران.

أعود بعد عشرين عاما إلى ديارك، أين حط الحنين رحاله وتفاقمت حمم الذكريات. أراك بعين ما رأت رغم ما مر عليها من بهارج الأرض سواك، عبر زجاج النوافذ المغبرة، تنتصب هناك، أمام اللوحة الأخيرة حيث تمتزج دمائي بنزف ضوئي لروحك. أراك كما اعتدت أن أراك، صامدا صامتا مقاوما وثابتا على الحرف الأخير والوعد الذي لا يخيب. أهم بالمضي إليك، بطرق الأبواب الموصدة على انتظار، وإيقاظ الياسمين الحزين بقدري وقدرك تحت شرفات النوافذ.. أهم بعناقك والانصهار بقلبك والرجوع إلى دفئك واعتناقك دينا وكفرا. بعدها تخونني الحركات ويعود الصوت خائبا كالغصص، وككل السنوات العشرين التي مضت في الغياب، أعانق صورتك اليتيمة وما اجتمع في الفؤاد عبر الأيام من لهفة واشتياق.. ثم أمضي مجددا نحو الرحيل ونحو الخيانات.

12/06/2018

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن