بدا لوهلة أن صباح هذا الأحد لن يحل لشدة ثقله. مشطت أرضية الغرفة جيئة وذهابا وارتشفت القهوة لتسقط في جوفي كالسم المر. انطفأت النجوم هذه الليلة ومعها انطفأ الكثير من قلبي. ألقيت بجسدي المنهك على السرير القطني وتأملت عقارب الساعة البطيئة بنفاذ صبر، ثم أغمضت عيني.
كنت أحب صعود تلة برج قليبية كل صباح عند السابعة، هناك على الطريق المقابل أراه كل يوم في زي رياضي مختلف، يركض بنسق معتدل هائما في اللاشيء، تضج أذناه بموسيقى لا أعرفها. كنت أحب تفاصيله إلى أبعد حد، سماره الخفيف ولحيته المهملة وشعره الكث والأخضر الذي تعريه الشمس في نظراته، أحب قبضة يديه والحقيبة الخفيفة التي يحملها على كتف واحدة وكل العمق الساحر الذي تنطوي عليه روحه. أغمض عيني حين يمر بجانبي كي أحتفظ برائحته المعتقة، ثم أسارع الخطى جهة البرج.
أبلغ القلعة العالية، ألامس بوابتها العملاقة المغلقة ثم أمشي حولها بخطى ثابتة، أعتلي حافة السور وأتجاهل خوفي من المرتفعات ثم أحدق في تلك المدينة الساحرة، شواطئها الخجولة وبحارها الممتدة أبعد من كل الأفق ونوارسها الوفية وقواربها الصغيرة كحبات الحلم. أتأمل المنازل البيضاء المتفرقة والمساحات الخضراء الفاتنة فتملأني الغبطة ويشبع الفنان داخلي بكل ذاك السحر. أعتقد أن قليبية هي المدينة الوحيدة التي سقطت خلسة من الجنة وامتدت هنا، وأعتقد أنه وبطريقة ما قد سقط معها، محال أن يكون ظله الطويل ذاك ظل إنسان اعتيادي. لمحته يسير على السور من الجهة المقابلة كما اعتدنا. يتظاهر بأنه لا يراني وأتظاهر بالمثل، يضع يديه داخل جيوبه ويمشي واثقا محدقا في السماء، تحط خيوط الشمس رحالها على عينيه فيتعب قلبي ويجن نبضي وأذوب في المسافة بين جفنيه وشفتيه. أفتح ذراعي وأحدق في السماء، يخيل إلي أني سأحترق بعد حين كالفينيق المقدس وأتساءل عن كل الأوصاف التي ينسبها لي حين يمر بقربي مدعيا أنه لا يراني كأنه لم يلحق بي منذ حين.
تتفتح أنوار هذا الأحد، أمسح دمعة باردة سالت تحت عيني وأبتلع ألما حارا وشديدا ثم أنهمك في إعداد حقيبة السفر بصمت كثيف يمزقه صوت فيروز العميق:
امبارح تلاقينا قعدنا عحجر"
برد وحوالينا عريان السجر
...
كل مين طوى شراعو وراح بهالمدى
ولدين وضاعوا ع جسر الصدى
تفارقنا بهدا والدنيي هدا..."يجر أبي الحقيبة عني ويسألني بحرص شديد عن بطاقة الهوية وجواز السفر والأوراق المطلوبة، أهز برأسي في كل مرة، نصعد إلى السيارة وننطلق نحو وجهة بعيدة جدا.
هناك على سور البرج تركت سوارا أحمر ثقيلا، علقت في أطرافه ورقة تحمل اسمه، سيكون في هذه الساعة من النهار قد عثر عليها لو كان محظوظا ثم سكن يقرأها دون فهم آلاف المرات، واستكان جالسا على الصخور، محدقا في الأفق، يرهق الصمت أحلامه البعيدة.
"قد نلتقي مجددا، في زمن ألطف من هذا الزمن..."
#رسائل_قصيرة_٢
12/05/2019
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.