بدا مشهدك وأنت تجر حقائبك عابرا بوابة بيتك لترصفها على المقاعد الخلفية لسيارة والدك مرعبا، ومع أن الجو كان صيفيا جدا إلا أنها أمطرت بشدة داخلي.
حاولت التقاط أنفاسي ومنع عيني من الانغلاق ولو لجزء صغير من الثانية، خفت أن تفوتني التفاصيل. شعرك أشعث كالعادة، لا تنفك تفركه بين الحين والآخر خائفا من نسيان غرض مهم داخل غرفتك، تفعل هذا باستمرار حين تكون قلقا. ألا يبدو غريبا أنني أحفظ كل العلامات التي تشير إلى حالاتك النفسية؟
مرت الأيام سريعا وأنا أراقبك في صمت ولم أنتبه إطلاقا إلى كوننا كنا نكبر وأن قدرا بشعا بالنسبة لي على الأقل انتظرنا. اعتقدت أن خبر تفوقك في الدراسة دافع قوي للسعادة والأمل، طوقت خصري بوشاح قرمزي يومها ورقصت بجنون بين جدران غرفتي فرحا بك، كنت أتوسل الله كثيرا بعد كل صلاة من أجلك، خفت على قلبك من الكدر، لكنك لم تسمع همسي الخافت أبدا، ولم يخطر لك أن تواسيني يوم علمت أنك راحل إلى حيث لن أستطيع رؤيتك إطلاقا. لم تمسح دمعة واحدة على خدي في حين كتبت لك في كل يوم رسالة ملونة كي يمر يومك سعيدا ثم خبأتها تحت فرامل دراجتك.
تأملت ساعديك وعروقك البارزة، فكرت في الشامة الصغيرة خلف عنقك، ابتساماتك المختلفة والحكايا الكثيرة التي تنطق بها عينيك. أعلم أنك لم تلحظني يوما بقدر ما أعلم أن أنثى غيري تفتك بك بسهولة مبالغة أين ستمضي، ولا يحزنني أنها ستفعل، لكنها قد تكسر قلبك، قلبك الذي أصلي طويلا كي يبقى سليما.
يحزنني أنها قد لا تعثر على سر بديع في كل جزئياتك الدقيقة وقد لا يؤرقها غمك قدر ما يؤرقني وقد لا تبدو لها ثمينا كما أراك وقد لا تكون لك سندا صلبا كما كنت لأفعل. أليس أثمن ما نرجوه من الحياة كي نستمر فيها مطمئنين يد قوية تمنعنا من السقوط وقلب دافئ ينقذنا من الموت بردا وأجنحة سوية ترفعنا نحو السماء وكثير من الصدق والاحتواء؟ الإنسان يقضي عمره كاملا يركض خلف الأشياء المشعة والملفتة ولا يدرك إلا متأخرا أن أجمل ما وهبته له الحياة كان حوله دائما، تلفه الظلال على بعد خطوة واحدة منه. الخبز أثمن من الياقوت لو كنا موضوعيين قليلا في تقييمنا للمواد. ربما كان قلبي هكذا لا غير، خبز وماء وغطاء سميك، أشياء تبقيك آمنا رغم أنها بسيطة وبدائية.
أخاف على كل قطرة دم في عروقك البارزة وكل خلية مجهرية كونت كلك المبهر، فهل يمكن ألا تخاف هي فتجرحني قبل أن تجرحك؟ إلى حيث تمضي، لن أكون هناك، لن أكتب لك رسائلي الملونة ولن أعرف أي صلاة وأي دعاء أختار لك، ولن أعلم شيئا عن كل الليالي التي قد تمضيها باكيا متقلبا، وسيفوتني دائما أنها كسرت فيك كل أحلامي الجميلة. أليست خسارتك كبيرة جدا رغم أنك لا تحس؟
نظرتَ فجأة نحو نافذني فرأيتني بما أنني لم أختبئ هذه المرة خلف الستائر ولم أفتح النافذة نصف انفتاح ولم أواري خوفي من فقدانك وحزني العميق ودموعي النازفة. استطعت أن أقرأ استغرابك وذهولك بوضوح، أفرق كثيرا بين مختلف الزوايا التي تتخذها انحناءة حاجبيك. أغلقت النافذة في وجهك بعد أن اكتسحتني حالة فاجرة من الحسرة ثم وقعت على الأرض أنثر شهقاتي للصدى، أنتظر بنفاذ صبر صوت المحرك وعجلات السيارة لكي يغدو موتي كاملا وبكائي مستباحا. خسارتي كبيرة أيضا، وكل ما في هذا الجسد يحس.
19/06/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Acakحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.