11/02/2017

276 23 10
                                    

برد فبراير القارس هذا العام يلذع أفكاري...

كوب من القهوة، صوت شخير أبي من الغرفة الأخرى، همسات شقيقي، اهتزاز الهاتف معلنا وصول كم من الرسائل السخيفة، ضوء الغرفة الشاحب، رائحة اللاشيء و قلبي كتلك الرائحة الباهتة مخدر.

في تلك الحالة من السهو جلست أمام نافذتي أشاهد الزهرة الوحيدة في حديقتي تصارع نوعا غريبا من الأمراض تحت ظلمة الليل و في خفاء.

قبل سنوات كثيرة و في ثورة جنون عميقة أحرقت حديقتي بيدي بعد أن أهدرت عمرا كاملا أجمع بذور أزهارها النادرة، لقد تفتحت نفسي يومها، انبثق اللهب من جوفي و اجتاح مفاصلي، أردت أن أرقص فوق حلبة من نار بثمالة مطلقة، أن أطلق نفسي كرصاصة آثمة نحو العدم، أن يختلط دمي بشهقاتي و بجثث أحلامي المؤودة في سراديب قديمة، أن أغدو لا محدودة و حرة من قيودي و لقد فعلت...

أحرقت الحديقة التي سهرت عمرا كاملا أصنعها و بعدها، بعدها خلعت عني وساوسي التي تقول أنها قد تذبل يوما. كم كان مريحا أن أرى تلك الهواجس العقيمة تحترق معها.

وقت طويل مر إثر هذا أمضيته أتفادى النظر إلى النافذة بعد أن كسرت كل مرايا البيت، خشيت أن أستعيد مشاعري و أنا أحدق في السواد الذي صنعته و آثار تلك الليلة على جسدي، خشيت من الثورة نفسها أن تستعمر روحي و قد استنزفت حلبتي و قتلت براعمي. ماذا لو انتابني الجنون و أحرقت جسدي و رقصت؟

أنا لا أخاف حقا من الموت، أخاف فقط ألا أستطيع احتواء العالم بين أصابعي و أنا أدور كثقب أسود في فراغي، أخاف أن ينتهي بي الأمر في حفرة ضيقة تعيق حركتي و أن لا أعثر  فيها على عود ثقاب، أخاف ألا يكفي رمادي الباقي كي أصنع نارا جديدة.

حاولت أن أكتسب عادات أخرى، أن أغزل جوارب  ملونة من الصوف مثلا، أن أصنع أبراجا شاهقة من الورق، أن أعد من الصفر إلى حيث سيتخدر لساني و حتى أن أجرب كل المفاتيح على باب غرفتي رغم أني أعرف أيها الأنسب كي يفتحه فقط لكي أمنع نفسي من النظر عبر نافذتي.

لكنني قد نظرت ثم ثرت و انتشيت...

كل ما تمنيته طيلة حياتي البائسة أن تحدث معجزة صغيرة ذات يوم و أن أكون شاهدة عليها، أن أخوضها و أن أكون المخبر الأول عنها في كل فضاءات الثرثرة العالمية و لقد حدث، رأيت برعما أخضر صغيرا و مشعا في قلب حديقتي المحترقة، تركت الصوف و الورق و المفاتيح و الأعداد و ركضت إليه.

أنا لم أكن سعيدة من قبل لكنني يومها قبضت على السعادة من قلبها بقبضة لينة، أدركت أن حديقة شاسعة و ثرية لا تكفي كي تؤجج في نفوسنا البائسة الشغف الذي قد يمنحه برعم وحيد وسط الخراب. للمرة الأولى لم أفكر في النار بقدر ما فكرت في الماء، الماء هو ما أحتاجه لأخلق معجزتي الصغيرة.

برد فبراير القارس هذا العام يلذع أفكاري...

الزهرة الوحيدة في حديقتي تصارع نوعا غريبا من الأمراض تحت ظلمة الليل و في خفاء و أنا أشاهدها من خلف نافذتي.

لم أسقها منذ وقت طويل، لو أهبها قطرة واحدة من الماء قد تحيا لكنني أدركت، أدركت أنها لن تستمر إلى الأبد و أنها يوما ما لن تكفي، سأصاب بالجشع، سأثور، سأشتهي أن أرقص، سأحرقها لكنها لن تكفي، ستنطفى بسرعة  و تخلد كوصمة عار في ذاكرتي أو نشوة ناقصة...

سحقا لذاكرة ناقصة!

أنا لا أنتمي للماء، لا يمكن أن أنتمي إلى الماء أبدا، علمت الآن فقط أنني لا أصلح أن أكون بستانية كما لم أصلح من قبل لتربية القطط السائبة.

أغلقت النافذة، جلست إلى مكتبي و سحبت الأوراق الصفراء المهترئة و الأقلام الجافة، أفرغت ثقوبي السوداء من خباياها و حاولت أن أصنع بكل هذا لوحة جديدة أعلقها على جدار خساراتي ثم أرحل نحو هوس جديد.

لم أنظر إلى نافذتي بعدها أبدا، حبذت لو تبقى تلك الزهرة الهشة حية في قلبي إلى الأبد.

لطالما كانت معجزني الصغيرة.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن