وسط الزحام الكثيف، لمحتك تجر جسدك الهزيل، تائها في عوالم مغزولة من خيوط الضوء. حدت بعيني عن مجالك واعتنقت الصمت اللذيذ نشيدا حماسيا لكل ما اكتض به صدري من مشاعر.
من المحزن أنك لا تعلم هذا بعد، لكن ظهورك المباغت من حيث لا أدري أجمل معجزات هذا الفصل الكئيب من حياتي، السحر الغريب الذي تلبسه نفسك وغيوم الحزن الرمادية في مرايا العينين وأنصاف الابتسامات التي تطلقها والخجل الخفي من حين إلى حين. لو كنت في السادسة عشر من العمر لجزمت أني أحببتك، لكننا كبرنا أيها الصديق البعيد. كبرنا على التفاح المغطى بالسكر الذائب وعلى أشعار الغزل القديمة ورسائل الحب البدائية وحكايا الليل الطويل وعن كل ما قد تتحلى به الروح من عفوية الصبى وفجور الأحاسيس الجارفة. أصبحت أدرك الآن أن الحكايا التي نخوض فيها على الورق أبعد مدى من تلك التي نفجرها على أديم الأرض وأن كل ما ستقوله من كلمات وكل ما قد نخوض في غماره من جنون سوف يقتل في قلبي عبق الحكاية، وأنك حين تمر صامتا مطأطئ الرأس ساكنا تغدو أشد خطرا على نبضي من القصائد والموسيقى والذكريات الحارقة.
هالتك البيضاء وسط كم السواد حولي أيها الصديق، وإن جعلتني أتحسر على ذنب اقترفته في حق نفسي فإني أتحسر على اعتزالي الرسم في سن صغيرة. أناملي تسيل اليوم على الورق، تلامس ما لم تستطع الكلمات رسمه من تضاريسك. لو عدت للرسم يوما فسيكون وجهك أول انطلاقاتي، وسأصورك بذات الشكل الذي رأيتك فيه، كيان أبيض دقيق في ظلام عظيم، محاط بدخان السجائر والأحلام، سأقول أسفل اللوحة أنك قد كنت آخر ابتسامات الإله، هكذا كنت أراك دوما.
من المحزن أن أكون فكرت فيك طوال ليالي هذا الشتاء، سمعت كل الموسيقى التي تشبهك، قرأت كل الكلمات التي انزلقت منك، نحت روحك بكل ما احتوته من انحناءات على جدران مختلفة داخل قلبي، كتبت عنك وفي وقت وجيز جدا ما لم أكتبه في كل لحظات الحب الشاهقة، لمحت فيك ذاك الضوء الغريب الذي لطالما تحدث عنه الرسامون والشعراء وأبطال الأفلام ولم أخبرك أبدا كم تبدو جميلا، أن كل ما تغزله أناملي مؤخرا يخصك وحدك وأنني لا أتحدث في كل ما تحدثته عنك عن الحب ولا الانجذاب ولا الروابط المبتذلة بكل ما تحتويه من تفاصيل مؤثرة، بل عنك مجردا من كل هذا، كرجل استثنائي جدا أحيا في عروشي الذابلة كل ما مات فيها من شغف.
من المحزن أن لا تعرف يوما وأنت تتوسد كآبتك وتبكي ليلا شعور الخزي الذي قد ينتابك، وأنت تكافح وحدتك، وأنت تحدث نفسك عن بشاعة أن تكون كائنا غير مرئي، كم كنت عظيما في عيني، مختلفا، كافيا، عصيا على النسيان، وأن انجرافي المتهور في مسالكك، انغماسي في أبعاد لا تخلو منك واعتناقي لك مذهبا شاذا مبتكرا ليس إلا ذاك الأثر العظيم الذي تتركه خلفك بعد أن تمضي.
لو كانت ريشة قباني بين يدي الليلة، لجعلتك أسطوريا أكثر من رجل الجريدة ولصنعت من عينيك تيارا شعوريا جديدا.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.