كان يوما مشمسا. هذا كل ما أستطيع تذكره. وضعت إعلانا لبيع البيت الصغير عند الضاحية على أحد المواقع الرقمية ثم غادرت نحو مقهى لم أعتد ارتياده. جلست حذو النافذة أشاهد السيارات وزحمة الطرقات وشربت كوبا من الشاي الأخضر مع النعناع واللوز. لم أفكر في احتمال أن أندم على فكرة البيع، اتخذت قرارا نهائيا لم أكن أستطيع جداله مع نفسي. لم أكن بحاجة إلى المال ولم يكن الظرف قهريا ولم تكن لدي أية مخططات أخرى.
يوم اتصل أحد الراغبين بالشراء وددت لو أبصق على وجهه بقوة ولو ألعنه حتى النطفة الأولى التي انبثق منها جده الأكبر . شعرت أنني أعايش أعنف حالات الهستيريا وأن فيضا من الكلمات كان يسارع للتفجر من عمقي. لماذا تشتري هذا البيت؟ ألم تجد إعلانا غيره؟ أتظن أن قيمة الأشياء تكمن في مدى جمالها ظاهريا ومدى رقيها اجتماعيا ومدى أصالتها انتماءً؟ مالذي تعرفه عن تاريخ البيت العريق والعميق وعن كل ما ينطوي في فضاءه كي تفكر في اقتناءه؟ لم أقل شيئا، وافقت على بيعه له بلكنة ودية باردة، عقدت موعدا للقاء، ثم هرعت إلى النوم قبل أن أكوّن تهيئا لما يمكن أن أحسه.
قبل يوم واحد من انتهاء إجراءات البيع، زرت البيت لآخر مرة بغية التأكد من حالته الجيدة. اعترضتني الحديقة البسيطة، أزهار الياسمين والأركيد والبنفسج وبعض الورود النادرة والزعتر وأشجار التوت والتفاح والسفرجل. زرعنا كل واحدة منها معا، أعطينا لكل نبتة اسما وسجلنا على دفتر جلدي صغير تواريخ الزراعة، لدينا صور لكل مراحل نموها حتى، وبين أوراقها طيبة الرائحة أستطيع أن أرى كل المشاهد التي عايشناها، كل الظلال البيضاء، كل حفلات الشواء التي أقيمت في الحديقة. كنت ريفية المنبت، أحب الأرض وما يولد من صلبها وكان مهووسا بإبهاري، وهكذا انبثق حلم البيت ذي الحديقة الواسعة. اكتشفت وأنا أغوص في ثنايا الذاكرة أنني لا أعرف شكل أصابع يديه، وهذا التفصيل الصغير استوقفني. اعتدت أن أنظر إلى أصابع الرجال قبل وجوههم، كيف لا أعرف شكل يديه إذا وحدود أظافره؟ يداه اللتان لامستا الرمل لزمن طويل واجتثتا الأعشاب الطفيلية وداعبتا منطقة حساسة أسفل عنقي وأخذتا بيدي عديد المرات كي نجوب الزوايا. يداه اللتان تذوبان مع الحبر كل ما كتب ليغدو الحرف في حضرته حبات من السكر، تعدان القهوة صاخبة بالأمنيات، تفتكان بسر العود وتراقصان السجائر اللينة وتعيدان إحياء ما ألغته الغفلة في جسدي. هل كان جلده لينا شفافا أم كان سميكا خشنا وكيف كانت خطوط راحتيه وعروق ذراعيه؟ لم أعتقد يوما أن شغفي به كان ناقصا.
دلفت إلى الغرفة العليا، أين يبرز البحر ممتدا كالفراغ وتلوح رمال الشاطئ البيضاء ساكنة، تعكر صفاءها خضرة مشتتة هنا وهناك. كنا مولعين بالتفاصيل، كل لون على الجدران يرتبط بمعنى وكل طراز من الأثاث يخص مزاجا محددا وكل فنجان هنا يشبه قصة، وكل رائحة عبرت هواءنا عبرته لغاية، حتى بقايا الشعر على وسائدنا وشكل الفوضى التي تغمر ألحفتنا كانت مهمة جدا لنا. كيف لا أذكر شيئا عن أصابعه وقد عايشت معها ضروبا من اللذة الغامرة؟
أخذت رسائل الانتحار من الدرج كي أنظف البيت من آخر ذاكرة، أحرقتها عند الشرفة وألقيت رمادها إلى الريح. كنت أتخيل أن كل ما عشناه معا سعيد وجميل إلى حد يستحيل بلوغه ثانية، لكن رسائل الانتحار المتعددة التي كتبتها تدل على عكس هذا. فكرت في الموت في كل ثانية مرت عليّ، رائحة الورق خصبة بذرات القلق والصراعات الصامتة. لم يطلب مني أن أكف عن كتابتها يوما، كان يحبها، يغذي في داخلي كل بؤس الأرض لكي أستمر بها، ويمرر تلك اليدين على شعري بلطف شديد ويلقي بالقرب من أذني مطلعا لقصيدة قبانية:
" إني أحبك عندما تبكين
وأحب وجهك غائما وحزينا."وكنت أنغمس في الحزن والسواد بلا حد، أخاله عمقا وأخال إحراق الروح تنشب عنه رائحة بخور طاهرة. الآن لم أعد أفكر في الموت ولم تعد تطيب لي كتابة هذا النوع من النصوص.
أخرج من المنزل وأرى عند المدخل لمحة للرحيل، أسمع صدى متكررا لصوتي المتهكم وأنا أطلب منه الذهاب بإصرار، أسأله ألا يسمح للحياة بجعلنا نلتقي حتى مصادفة، يعود رده المتحدي إلى مسامعي:" سوف أخذلك مجددا..".
أبتسم، ذاك أن الغياب لا يترك مساحة للخذلان، إن لم نكن استوفيناه ما كان الفراق ملاقينا أصلا. أضع الرسالة الأخيرة التي كتبتها له عند فتحة سرية بجدار السور كنا نخبئ فيها ضعفنا إبان كل فراق سابق فتعيدنا تلك الرسائل إلى العهد والوعد:
" إن أقسى أنواع الخذلان ذاك الذي مارسته على نفسي، أفنيتها لكي تشاهد عرضا تراجيديا ممتعا ثم تمضي. يا لقبحك، حين حولت ألواني المبهرة إلى ترانيم شيطانية."
الآن أسكن شقة صغيرة في قلب العاصمة، تنفتح شرفتها على شارع طويل رديء قليل الحركة، هناك حانوت بقالة لرجل مجنون يقابلني ولا يخلو الحي الخلفي من صوت الأطفال المشاغبين والسباب والشتائم. ليلا تخلو المشاهد من الناس تماما ويمنح صوت السكارى المغنين نغما من ذوق مختلف يتفوق على الموسيقى المحكمة. جدران الشقة مقشرة ومشققة وكل الأغراض فيها عشوائية وفوضوية، ولسبب لا أفقهه تبدو هذه المشاهد المهمشة غضة بالحياة والغبطة أكثر من كل عهد قديم.
أغرق في الكرسي وأرفع ساقي فوق المنضدة، أراقب النجوم وأسمع أغنيات شعبية حية. أتنفس بعمق منذ أيام. كان علي أن أبيع ذلك البيت منذ وقت طويل. الخوف من الفقد يغدو أصعب من الفقد نفسه أحيانا حين نبالغ فيه.
#رسائل_قصيرة_3.
18/05/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.