الإهداء:
إلى وجع يتضخم في الخيال و رجل أثيري المقام.
____________
كان صباحا سرمديا لا تنساه الذاكرة...
هناك في الركن القصي من المحطة انزوت في حياء، تلاعب وشاحها الأحمر نسائم إبريل الخافتة، تتلو في سريرتها قصيدة ثورية لدرويش أو تنشد " زهرة المدائن " لفيروز و ترمق بطرف هدبها أبعاد الطريق حولها.
أشعت نظراتها أخيرا حين لمحت خطواته البعيدة تقترب و قد لاحت منه قامته و الحقيبة الثقيلة خلف ظهره، تدريجيا تحولت الأصوات الصاخبة داخلها إلى ابتسامة هادئة و خف الضجيج و الجنون المتفجر في كيانها ليغدو نبضات مخلصة. تحبه من أجل هذا، لأنه المانع الوحيد بينها و بين القفز إلى هاوية اللانهاية ولأنها تقمع هوسها في حضوره.
تبينته أخيرا، زيه العسكري الأخضر و علم الوطن الأحمر على أحد كتفيه، ملامحه الصباحية الجامدة ككل مرة و ابتسامته الجانبية الباردة ثم تلك النظرة الثاقبة ذاتها و هو يرصد كل العابرين على الطريق قبل أن يخترق عينيها كرصاصة لا تخطئ الهدف.
يخطر لها في كل مرة تقترب كي تقبل وجنته أن تهمس غدرا في أذنيه:
" عيناك وطني الأخضر!"
لكنها تؤثر ألا تقول شيئا.
يستفزه صمتها، تكورها على ذاتها في حضرته، إجهاضها المستمر للكلمات و شعوره الذي لا يزول بأنه يقف خارج أسوار حصنها و لا يرتقي أبدا ليكون فارسها الخرافي. لا يستطيع الإيمان بحبها حقا و لا يعرف إلى أي مدى يمكن للأحاديث التي تلفظها بعيدا عن عينيه حقيقية، لا يعرف عنها أكثر من هشاشتها.
تحاول أن تخبره في كل مرة أنها امرأة ذات تعقيدات شتى، و على غرار كل نساء الأرض تترك أسوارها مفتوحة حتى يبدأ الحب لتغلقها لأنها تنتظر رجلا يخترق فخاخها و يخطو أبعد من حدودها و لأن صوتها آخر ما قد يحصده مغامر في دروب قلبها و لأن رجلا لم يمسك بين أصابعه حبالها الصوتية رجل سيعيش إلى الأبد خارج حدود مجازها و دوائر الذاكرة الخالدة.
بعدها لن تصمت أبدا و ستحدثه طويلا عن حكايات الأولين و أقدم الخيانات، عن تاريخ الكتابة من المسمارية إلى اللاتينية و عن أساطير الإغريق و ملاحم روما و فتوحات العرب و نيران الفرس و أساطيل المغول و موشحات الأندلس و زيتون فلسطين و عرعر لبنان و ياسمين الشام، عن تنهدات أورورا البشكنجية بين أروقة قصرها في قرطبة و هي تبحث بلهفة عن المنصور، أو بكاء العامرية خلسة حين تناجي مجنونها أو ربما رقص البرازليات و عزف رجال المكسيك و عن الفرسان الشجعان الذين تحدوا بشموخ أسوار قلبها.
و في النهاية ستخبره كم وطنا و بيتا احتواها داخل عينيه.
تبعته بهدوءها إلى أحد المقاعد و جلست حذوه، خبأت أصابعه الخشنة بين يديها و ابتسمت متبعة بلمساتها خطوطا على كفتيه زادها الزمان وضوحا و قساوة...
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Разноеحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.