عواصف صامتة

41 1 0
                                    

بالكاد أستطيع أن أصدق أن عاصفة هوجاء مرت من هنا قبل بضع دقائق، كانت الريح عنيفة جدا وحارقة، لم أشهد ريحا حارة بهذا القدر الملفت من قبل، زفير فر من قاع الجحيم إلينا. كانت قطرات المطر باردة جدا في المقابل، وإحساسي بالحر الشديد والبرد في آن بدا مربكا. اهتزت الحشائش بقوة وحلقت الأكياس والأجسام الصغيرة في الفضاء  كالنيازك وهرع الجيران لإغلاق النوافذ والأبواب. شاهدت المشهد المتقلب بذات النظرة الباردة، قررت أن أصمد حتى تنتهي العاصفة وأن أواجهها بقميصي الأزرق الشفاف والقصير وقدماي الحافيتان وقلبي الراكد حتى الموت.

العواصف العنيفة تغير كثيرا في تفاصيل الحياة لكنها حين تنتهي توهمك بأن المشهد ظل ثابتا  قدر ما كان قبلها. بعض النباتات لاقت حتفها في الخفاء، لا أحد سيلحظ هذا. ذرات التراب فارقت مواطنها القديمة نحو مراسي مجهولة أخرى والأجسام الخفيفة حتما وقعت في مكان ما، مكان لم تنتمي له يوما. هناك فوضى عارمة خاضتها الجزئيات الصغيرة جدا وهناك تغيير شامل قد حدث في حين غفلة والعالم قد فقد وجهه القديم تماما واكتسب وجها مختلفا جدا إثر العاصفة. لا أحد انتبه لكل هذا.

أذكر عاصفة من هذا النوع مرت بقلبي فشوهته، مرت بروحي فبعثرتها، مرت بكل ما آمنت به من الرؤى القديمة فاختلطت فيها النهايات بالبدايات وتداخلت الأبعاد مولدة أبعادا أخرى، ولا أحد انتبه حتى الساعة أني قد غدوت شخصا مختلفا لا تليق به كل القوالب السابقة وأن هذا التغير اللامدروس قد خلف في ذاتي صمتا عميقا، وأنني أنا نفسي ومنذ وقت طويل جدا لا أستطيع أن أحدد ما أصبحت عليه وإلى أين آلت بي الأمور تحديدا.

أفعل أشياء لا أستطيع فهمها، أسير في تيارات لا أدري ما قادني إليها تحديدا، أبحث عن جسد جديد للمجسم الغريب الذي تحول له قلبي، أشعر أن يدا خفية قد غيرت لعبة الحياة التي دخلتها عند الولادة وأعادت خلقي في لحظة ساكنة منسية.. بيني وبين ذاكرتي فجوة شاسعة جدا وكل ما ضل فيّ من الأمس شتات لكلٍ ما عدت أعرفه ورواسب غير ثابتة ولا مكتملة التكوين للبقايا المتناثرة التي تحاول أن تغدو كلاً جديدا بالكاد أدرك ماهيته.

لا تستهينوا بقدرة العواصف على القتل والإحياء ولا بالفوارق التي قد تصدر عن إقلاع حبة رمل من الجنوب نحو الشمال ولا بمدى أهمية التغيرات اللامرئية، لربما كان هذا النص ليتخذ منعرجا عكسيا تماما لو لم ألبس الليلة قميصا أزرق شفافا وقصيرا أو لو لبست خفا بدل السير حافية فوق الماء.

22/06/2019.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن