" هل تأخذني إلى باب عليوة من فضلك؟"
قلت لسائق سيارة الأجرة الوحيدة التي توقفت أمامي في تلك الساعة المزدحمة جدا من النهار. أومأ برأسه فابتسمت له وصعدت.
" ادعي لابني بالشفاء فقط، قد يسمع الله ندائي من خلالك."
تلاشت ابتسامتي وانكمشت، انتبهت إلى بكاءه وخجلت من السؤال. مسح قطرات العرق الثقيلة من فوق جبينه، حدق في الطريق بضيق شديد ثم أردف:
" لا أعلم مصابه، يتلوى من الألم يوميا أمامي ولا يسعني فعل شيء، لا يسعني التحرك حتى أحصل له على صورة إشعاعية ثمنها مئة وخمسون دينارا، أعطيتهم تسعين دينارا وطلبت أن يأخذوا مني ضمانا مؤقتا حتى أكمل لهم المبلغ الناقص في وقت لاحق قريب لكنهم رفضوا تسليمها قبل استخلاص الثمن كاملا. تخيلي، كان الفتى يئن ويبكي من الوجع أمامهم بالمختبر وكانت والدته تتوسل متضرعة، وكنت أحاول إقناعهم بشكل إنساني فقط، لكنهم حدثوني عن القانون. أنا مجرد سائق، لا أجد المال الكافي كي أدفع رسوم الضمان الاجتماعي لكي نتعالج مجانا ولا أجد المال كي أدفع للمشافي الخاصة. لماذا لا يرى قانونهم أمثالنا؟"
كنت أفكر في أنني أرتدي قميصا قد يبلغ ثمنه الستين دينارا. أمسك بين يدي هاتفا يقدر بخمس مائة دينار ربما، قارورة العطر ومستحضرات التجميل والحقيبة الغالية التي اشترتها لي والدتي لكي لا أتذكرها لاحقا بحسرة. بدت الفكرة مرعبة جدا، أن ننفق الكثير من المال من أجل أشياء بلا معنى في حين يموت شاب في مقتبل العمر بعيدا عن وسائل الإعلام وفي الظلام من أجل ستين دينارا. ما الفارق المادي الذي قد تصنعه ست ورقات نقدية زرقاء في حياة صاحب مختبر التحاليل؟ على الأغلب سوف يقدم ضعف هذا المبلغ إلى ابنته الناعمة جدا كي تنفقها على وجبة عشاء بمطعم فاخر ثم تصور صورة سلفي مع أصدقائها المشرقين وتحصد ضعفي هذا الرقم إعجابات متنوعة على الفيسبوك. عند الطرف المقابل يموت إنسان معوز لا يملك ثمن دوائه.
الصورة تبدو مبالغة، لكنني أعرف طالبة جامعية توفيت قبل سنتين ربما بعد تعرضها لأزمة قلبية، رفض المشفى علاجها قبل دفع المبلغ المطلوب وخلال المدة الزمنية التي استغرقتها العائلة كي تسافر من الجنوب حتى العاصمة في أقصى الشمال، توفيت الفتاة.
هذه المشاهد تجعلني أتساءل مجددا عن قيمة الإنسان وعن مدى تأصل الشر في أعماق الذات البشرية. أتساءل عن الفروق الدقيقة بين قاتل قبيح يذبح الأبرياء بلا سبب وجندي ظالم يطلق رصاصه على المواطنين العزل دون ذنب يذكر لهم وبين طبيب بين يديه القدرة على إحياء إنسان ضعيف يرفض إنقاذه من أجل المال. هل أبالغ حين أقول أن هذا الطبيب سفاح مثقف يتبع طرق ملتوية كي يمارس الجريمة ذاتها في صورة حضارية بعض الشيء؟
"على ربي!"
اختتم السائق الحوار الثقيل بهذا التركيب اليائس. تنهدت بحزن وحدقت عبر النافذة جهة الشوارع المكتضة، انتبهت إلى الأعلام الحمراء المرفرفة بشوارع العاصمة. إنني لا أقصد الإهانة ولا أحتقر رموز هذا الوطن لكن كان يمكن أن تجمع المصاريف التي أهدرت في الزينة وتصرف على المرضى العاجزين في أزقة البلاد المنسية. كان يمكن أن لا نصنع تمثالا رخاميا للحبيب بورڤيبة في قلب العاصمة وأن نوفر المال عوضا عن هذا كي نؤسس مشفى للعلاج المجاني، كان يمكن أن لا نضيع آلاف الدنانير على موكب جنازة ضخم للرئيس الراحل الذي لا تصنع كل البهارج المقامة في الصدد أي فرق حقيقي ولكنها تصنع فروق عظيمة للأحياء المتضورين جوعا بين الظلال، للمشردين والمرضى الذين لا يمتلكون ولو ثقبا صغيرا يتسلل منه أمل النجاة.
غادرت سيارة الأجرة محملة بالألم، واسيت نفسي بأنني لم أكن أمتلك ولو نصف المبلغ كي أقدمه للسائق وقتها، كتبت نصا في الصدد لكي أتخلص من عقدة الذنب تماما كما كتبت نصا ليلة وفاة الفلاحات الفقيرات في حادث سير مرعب ونسيتهن بعد عشر صباحات ككل الآخرين، تماما كما سينسى القارئ هذه الكلمات وهذه القصة بعد عشر مناشير أخرى تعترضه كأقصى تقدير. سيظن القارئ بعد هذا النص أنني كاتبة نبيلة تحارب في سبيل قضية اجتماعية مهمة، لكنني شخص قذر مثله تماما لأنني ومثله أيضا لا أصنع شيئا يغير من النهج الحياتي الذي نسلكه. مثلكم تماما يعتصرني الأسف والحزن ولا أفكر بجدية أبدا باتباع مسلك حياتي آخر تؤجل فيه المتع الشخصية غير الضرورية مقابل العمل على تثبيت حلول قد تنقذ الإنسان الذي لا يعرف من وجه الحياة إلا عبوسها ومقابل أن تصبح المصلحة الجماعية أولى من البهارج الخاصة.
كما تحول وشاح الفلاحات إلى موجة جديدة للموضة تلبسها الشخصيات العامة أمام التلفاز في حفلاتهم الباذخة وبعض الإناث الرقيقات في حفلات خاصة محتفيات بحسنهن وشبابهن، ستتحول هذه القصة إلى فقرة لغوية رنانة تزين كل مناشير المترشحين للانتخابات بعد شهر. ولا شيء سيتغير من الواقع، حتى بعد انتخاب جهة وعدت بخلق وطن جديد لا فقر فيه، لأن لا أحد منا يؤمن حقا بفكرة الإصلاح الحقيقي وبأنه جزء لا يتجزأ من الحل وبأن كل فرد منا مطالب بالتغيير، التغيير الذي يمتد من أفكارنا حتى سلوكياتنا اليومية، التغيير الذي قد يشمل تفاصيل دقيقة جدا لا نبالي بها في يومنا العادي.
لا شيء يتغير من وجه الحياة طالما أؤمن أن الأمر لا يعنيني بشكل مباشر، وطالما تظن أنه لا يعنيك إطلاقا. لكننا، وفي كل ليلة يموت فيها إنسان في صمت دون أن نحرك ساكنا، فإننا لا نختلف أبدا عن الطبيب الذي احتكر قدرته من أجل المال أو الجندي صاحب الرصاصة الظالمة أو القاتل العبثي. نحن أيضا مجرمون بذات القدر.
#أنين
02/08/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.