المكان يشبه غزة لحظة القصف الصهيوني، أصوات القنابل والصراخ والبكاء والرصاص ورائحة الدم والهلع تصدح من كل ركن ، وأنا مازلت أتجول بهدوء شديد بين أروقة معرض تشكيلي لبناني على ما يبدو، قد صار مهجورا منذ دقائق وحتى صاحب اللوحات قد فر بعيدا ملبيا نداء الحياة.
زجاج النوافذ قد تناثر حولي محذرا والدخان الثقيل تسرب من كل الشقوق وعلى ما يبدو فإن شيئا من النار قد بدأ يأكل أطراف المبنى، وكل هذا غير مهم حسب رأيي، صوت الموسيقى الأندلسية التي أسمعها عميق ولذيذ، يلامس بعدا خفيا لروحي وأنا مشدودة وبقوة إلى تلك اللوحة الغريبة منذ دقائق.
لماذا أحدثكم عن الحرب والدمار؟ في هذه اللحظة الوجودية اللوحة هي كل ما يهم، ما إن لمحتها في الرواق حين دلفت إلى هنا وشعرت أن صوتا إلاهيا جرني إليها، هل هي جميلة إلى هذا الحد كي أتجاهل القصف فوق رأسي وأبقى عندها؟ ولماذا أفكر فيها الآن وبهذا الصفاء الفكري المبهر مع أن في مكوثي هنا خطر موت حتمي؟
لا تكن سطحيا وأنت تقرأ، الموضوع عميق جدا ومصيري أكثر من الموت حتى، أشعر أني رأيت هذه اللوحة من قبل في مكان ما ولكنني لا أستطيع تذكره، وكلما حملقت فيها أكثر أدركت أنني حقا أراها للمرة الأولى، هذا لا ينفي إطلاقا أنني أعرفها، ألا ترى كم يبدو الأمر محيرا وعميقا؟ أقرب أصابعي بهدوء كي ألامس منطقة اللون الأصفر وأبتسم بتأثر.
حين استيقظت صباحا لم يكن مقررا أن أزور المعرض التشكيلي، حياتنا هذه الأيام صعبة جدا، كلنا بلا استثناء نركض كي نوفر القليل الذي يسمح لنا بالبقاء ونفتش في كل زاوية عن مكان يحمينا من الحرب، وأنا لست أكثر من امرأة كالأخريات تخاف وتفزع وتضحك كثيرا وتحتاج إلى يد تربت عليها من حين إلى حين ويهتز قلبها كالطبل بين أضلعها وتفكر في فارس الأحلام والزواج والأطفال والنجاح وحتى ممارسة الجنس في فضاء طبيعي واسع جدا وساحر حد الثمالة ولكن لافتة صفراء غبية ألصقتها الريح بوجهي وأنا أخوض معركة الحياة قد أوقفتني فألقيت بها بعيدا وواصلت الركض حتى واجهتني عاصفة من اللافتات الصفراء ومن دون قصد فضولي قادني إلى قراءة إحداها ثم وجدتني أدخل من باب المعرض أحدق في كل شيء بأعين فارغة.
عشر دقائق أردت أن أرى فيها ما يشبهه المكان ثم أرحل، فقط كي لا يؤنبني قلبي فيما بعد لأنني فوت فرصة محببة إلى روحي كهذه. بعدها لا أدري كيف اختفت الضوضاء كلها من حولي وكيف تحول كل شيء إلى أغنية أندلسية قديمة جدا وكيف قادتني إليها كي أقف كالخاشعة في يوم الحساب الأعظم. الألوان والأشكال والإنحناءات تشبه تماما مخطط المتاهة العظيمة المنقوش داخلي وهذا يصيبني بالجنون، الرسام الذي صور هذه اللوحة يعرفني جيدا، يعرف السر العظيم الذي خبأه الله في داخلي وهو يشكل كياني الصغير، وأنا لا أستطيع قول شيء الآن، ثغري مفتوح في ذهول والوقت متوقف في لحظة ساكنة ولا أعثر على حرف واحد على طرف لساني كي أردده. لا أفكر أبدا في البحث عن الرسام ولا في سؤال اللوحة ولا حتى في سؤال الرب عما يحدث.
شظايا الجدران تناثرت حولي والدخان ازداد كثافة وحر النار بات لا يحتمل والظاهر أن الأرض قد بلغت مرحلة قصوى من الغليان ولكنني لا أستطيع التحرك. أذهب وأتركها هنا كي تحترق؟ لا أريد امتلاكها أيضا، لا أريد أخذها معي، إنني أعرف أن هذه اللوحة بالتحديد تكره أن يتم امتلاكها بقدر ما أكره أن يتم امتلاكي، ويضايقني وبشدة أن أتركها محبوسة داخل الأطر، إن اشتريتها من صاحبها يوما فلكي أحررها، أكسر الزجاج والخشب وأطلقها كي تطير مع النسيم البعيد، اللوحة ذاتها في قلبي تضيق بجسدي ذرعا وتريد أن تطير بعيدا كي تراقص النجوم وتضيء كالشفق.
صوت غريب من الخارج يصرخ بي:" أخرجي من هناك؟ هل أنت مجنونة؟ ستحترقين! ألا تسمعين دوي القنابل؟"
مابال هذا الرجل؟ إنني أقف هنا أمام القطعة المفقودة لحل أحجيتي، أعايش أعمق لحظة وجودية مررت بها في حياتي، أشهد معجزتي الكبرى أمامي، لتتدمر الأرض ولتسقط السماء ولأمت إن لزم الأمر، من يبالي؟ اللوحة هي كل ما يهم، اللوحة فقط!
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.