الآن وقد أعلنت نهاية الحرب بيننا ونام الحب بين أبيات القصائد المنسية، أستطيع أن أكتب لك بمزاج مختلف جدا. لم تكن فكرة رحيلك إلى الأبد سهلة التقبل، كان علي أن أتجرعها ببطء وأن أنفصل عنك رويدا، أن أقنع قلبي كما أقنع طفلا صغيرا بحقيقة الموت أنك لم تعد هنا بعد. على الأقل هو ذا النص الأول الذي لا أبكي وأنا أنحت نتوءاته وهي ذي المرة الأولى التي لا تنتابني فيها ألف حالة من الصرع والتخبط المقلق. فكرت فينا بعمق أكبر مؤخرا، كان لقاءنا حدثا عظيما مع استحالته، وكانت حالات الحب المحرم التي عايشناها الأعظم في عوالم الحكايا الصاخبة، وكانت كل التفاصيل التي قتلتني مستحقة لكل ما تكبدناه من عناء. شكرا لأنك كنت حقيقيا ذات يوم، وشكرا لأنك مضيت بعيدا ليغدو سقف الحلم أعلى مع رحيلك، وشكرا لكل الألم الذي عايشته معك، جراحك فتحت في داخلي ثقوبا شاسعة ستسمح للضوء بالعبور وجعلت من قلبي محيطا أطلسيا بعد أن كان بحرا يلغيه الجزر أحيانا. أكتب لك بحكم العادة لا غير، اعتدت أن نتشاطر الحكايا والحنين، لكنني سأعتزل هذه الظاهرة أيضا قريبا جدا، ألم أبع بيتنا الدافئ قبل شهر؟ وحذفت المحادثات والصور؟ ثم كتبت لك رسالة طويلة عن الانفصال كنت أعنيها؟ تعلمت أن أسيطر على حالات الوجع المباغت في أغلب الأحيان واكتشفت أن منشوراتك التي تبرز أمامي دون قصد لم تعد تستهويني ولم يعد ينتابني الفضول حول ما تعايشه بعيدا عني. لائحة الموسيقى التي تشدني منذ مدة لا تحمل شيئا من رائحتك، ولأمر أجهله فإن كل الأغنيات التي أحببتها في عصرك الباذخ قد غدت قديمة الطراز ربما، أو أقل شأنا من ثوراتي الشعورية وذائقتي. لم أعد أقرأ لكتاب نتشارك في إعجابنا بهم، تيار الأفكار الذي يغويني بات مختلفا جدا عنك وكل المشاهد التي حاولنا تصويرها معا قد تجاوزها الزمن، يبدو أنني لم أعد في التاسعة عشر من العمر بعد. قبل أيام، وقف قبالتي شاب لطيف حادثني بلباقة أعجبتني، لم أشعر بمرارة تحرق حنجرتي ولم تراودني فوبيا رجوعك المفاجئ ككل مرة ولم أقارن انحناءة أنفيكما وكثافة لحيتيكما والفروق الشاسعة بين خطوط اليدين والأصابع، بل وابتسمت وفكرت في احتمال أن ألبس وجها جديدا أشاركه لذة التفاصيل الدقيقة. هذا لا يبدو أمرا مهما، عدت للتفكير في ضرورة اتباع حمية غذائية جيدة لمكافحة الأنيميا، عدت للبحث عن طرق مجدية لمقاومة الاكتئاب والقلق الحاد حيال كل شيء، أفتش عن طريقة ناجعة كي أمنح الأشياء معنى لطيفا ولكي أتفوق على كل النار والرماد ولكي ألامس أخيرا كل الأبعاد المستعصية مني. أدركت أنني أحب الحياة إلى حد ما مؤخرا، وأحب فكرة الوجود، وأحب أنك ذهبت إلى اللاعودة، وأحب أن أجمل ما أكتبه اليوم لا أكتبه لك وأحب أن ألغيك وأحب كثيرا أن أنهي كل حروبي معك.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.