كتب في ماي 2012
____________________
ايقظها زلزال من الأصوات , سنفونية من ضجيج مريب . أيقظها رنين عنيف من أجراس معبد بوذي , يحاول أن يقول قد زارنا ملك الموت . فتحت عيناها بفزع و انغمست أكثر في غطائها , تريد أن تسدّ منافذ تلك الأصوات . تصايحت نواقيس كنيسة ناطقة أحرف تحذير , تليها أنشودة نهوندية جنائزية تعلم الدّنيا أن قد حضر فيها عزرائيل . ارتعدت تحت غطائها و انقبض عليها , فأزاحته مرتعشة الأصابع , متردّدة النّظرة , و استقامت في جلستها على السّرير الحريري , و ألف استفهام يولد في فضاء غرفتها . صوت المؤذّن همس في الصومعة كلمات غير الآذان , قال " إنّا لله و إنّا إليه راجعون " و قال " الجنازة يرحمنا و يرحمكم الله " و قال "انتقل إلى رحمة ربّي فلان بن فلان " . فوجمت و اصفرّت , اختنقت و هزلت , و أحسّت جدران الغرفة تكاد تنطبق عليها . لم تستطع أن تبكي فهي شبه مصدومة , و لا أن تتحرّك فهي مذهولة . جدران الغرفة تسألها :" أيموت من بنى للخلود مسكنا ؟ ". و الأشياء المبعثرة حولها تسألها :" أيموت من خطّ المشاهد و كساها الألوان ؟ أيموت من خلق للحواس المذاق و وهب السّكون الرّوائح ؟ أيموت من أخرج الجمال من جثّة العدم ؟" . و حتّى شعاع لطيف تسلّل من خلف بلّور نافذتها البنفسجيّة همس في أذنها :" عجبا , أيموت من بعث الوجود و كان على البقاء سيّدا ؟ عجبا !! كيف يموت و هو من أوجد الأشياء ؟ " . فابتسمت جاف ريقها , مبيضّة شفتاها , زائغة عيناها , و مصفرّ وجهها , قالت : " قالها بشر , أن كلّما فتحت البداية أجفانها أثقلتهما النهاية , قد حلّ الشّتاء و آن موعد السّبات , فلما نبعثر الدّقائق بالسّؤال , أما آن لنا أن نرقد و كفى ؟ " . و قامت من فراشها ترسم الخطوات , أرسلت نظراتها عبر زجاج النّافذة , فأبصرت موكبا ضخما , الكهّان خرجوا من المعابد يكرّرون التّمائم , و الرّهبان خرجوا من الكنائس يتمتمون الشّعائر , و الأئمّة خرجوا من المساجد يتلون الآيات , على أطراف أصابعهم نعش أخضر , سار فوقه السّحاب يضلّل سبله , و أطيار و بتلات ورود حطّت عليه تزيّن حضوره , و حشد من نساء و رجال مشوا في الجنازة خاشعين , هم المبادئ و القيم و المشاعر يودّعون من أوجدهم . هو لم يكن إلاها و لا نبيا , هو لم يكن وليا من أولياء الله , هو لم يكن إلاّ رجلا أحيا أنوثة امرأة , هو وشم الخلود على روحها , هو رسم الجمال على نفسها ,هو انفجار الشّهوة في جسدها , هو باختصار رجل قيّدها بلعنة الحبّ فصارت لا حول و لا قوّة لها . راقبت موته بجمود و حسرة , تحبس القطرات المالحة في مدامعها , تنتظر أن يحلّ رجال الدّين التّعويذة.
استدارت و عادت إلى فراشها , تجرّ رجليها , أخذت قارورة العطر من على المنضدة القريبة , و رشّتها على شعرها الفاحم و وجهها النّاصع , رشّتها على يديها و قدميها و على فستانها الأبيض الفضفاض , و ما كفّت عن الرّشّ إلاّ و قد نسي أنفها روائحه . أسلمت جسدها على مضجعها بسكون , و رغم الثّورة التي انطلقت تمزّق نفسها , ما حرّكت ساكنا بل تظاهرت بأنّها لا تأبه , كاتمة في صدرها صرخة مرعبة , و رغبة جامحة في الخروج لاختطاف الجثّة من نعشها , في بعث روح جديدة فيها . أطبقت جفنيها , و انهمكت تنبش مقابر الذّاكرة , هي زارته اللّيلة الفارطة , و طافت حوله طواف الحجيج بالكعبة , و هو كالعادة سقاها الجفاء . هي رقّت لحالهما فسارت إلى مطبخه تعدّ لهما العصير ,و لتثأر لقلب مطعون دسّت في أحد الكؤوس السّم , لم تتكهّن بمن سيموت , قالت :" إنّما
الأعمار بيد الله , فمن شاء الله منّا يصحو يعانق منيّته . " هي قتلته , أو ربّما انتحرت . هو مات أو ربّما هي التي ماتت . هي لا تعلم إن كانت من في النّعش تطل ّ من ثقب فتراه في مهد الحياة تظنّه ميّتا , أو أنّه فعلا من يحتضنه النّعش. لكنّها تعلم أنّهما صارا في عالمين لن يتمازجا , و أنّ الأقدار صارت عاجزة عن كتابة موعد للقائهما , هي تدرك فقط أنه قد أصبح ماض يتبخّر.تبخّر الوهم و استقرّت الحقيقة منه , استيقظت من خمولها كالمولود الجديد , قد أثمرت شجرة التّفائل على صدرها . اليوم رتّبت غرفتها قبل أن تغادرها لأنّها لم تضيّع الوقت هائمة في مواطن الأحلام , حتّى أنّها تزيّنت و ما غادرت إلاّ كأنّها حور عين نزلت تزور الأرض . سارت نحو الجامعة هادئة النّفس , متناسقة الخطو , يطقطق حذائها وزنا موسيقيا , يتمايل على وقعه طرف فستانها الأزرق ذو الصّدر العاري . قد لمع أحمر الشّفاه على شفتيها العذبة , و صرخ الكحل على عينيها الواسعتين ذات الحدقتين السوداوين اللّامعتين . في منتصف الطّريق لمحت رجلا شامخا فخورا قد برقت منه ابتسامة توازي اشراقة الشّمس , مرّت بقربه فانقبضت نفسها , ذاك هو الرّجل اللّذي قيّدها بلعنة الحبّ ! مرّت بقربه و ما كلّمت و لا سلّمت , كأنّها لا تبصره , فاستدار مندهشا متعجّبا يرقبها , ما لها لا تضعف و لا تأتيه مجنونة كالعادة ؟ لم يفهم أنّها ربّما قتلته و أخرجت روحه قبرتها في متاهاتها المنسيّة , أو ربّما انتحرت فأصمتت النّبض بقلبها . لم يعلم أنّهما في هذا العالم الجديد لن يتعارفا .
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.