أربع سنوات مرت عن أول مرة أحضرني فيها والداي إلى العاصمة، جمعت أغراضي قبل ليلة وفي باطني حزن ثقيل، ملأت الحقائب بدماي القطنية ورسائلي المخبأة وهداياي المحببة وبكل ما له أثر عميق في جوفي. تأملت السماء من حديقتنا حافظة اتجاهاتها، عانقت شجرة التوت بكثير من الأسى وملأت رئتيّ بهواء الحقول النقي. بدا وكأنني أودع كل شيء للمرة الأخيرة. أذكر أنني ودعتهما أكثر من ثلاث مرات أمام مبيت الطالبات وحين رحلا أغلقت باب غرفتي وانكمشت تحت اللحاف الخفيف ثم بكيت كثيرا.
مرت الأيام وأنا أعد الفارق الزمني بين الإثنين والجمعة كي أعود إلى الديار، كل ما أفكر به خلال بقية أيام الأسبوع رائحة أمي وصوت أبي وشجاراتي الحامية مع شقيقي. تسألني والدتي عن أيامي بالعاصمة فأتذمر من الزحمة، من كثرة الناس، ثقل الهواء، المباني التي لا تترك مجالا للطبيعة كي تتنفس، أشكو لها كثرة الضجيج وقلة ذوق البشر وتصلب العواطف هناك والوحدة.
الآن وقد مرت أربع سنوات تامات، لا أعود إلى البيت إلا حين يغضبان أو حين تفرض علي الظروف أن أفعل أو لا يبقى لي عذر للمكوث. يبدو لي هواء البيت ثقيلا، زوايا المنزل مليئة بأسباب الألم والمدينة تحمل في صداها دموعا صامتات. يقود بي أبي سيارته نحو العاصمة، فأشاهد الطرقات والشوارع بهدوء شديد. أقبله مرة واحدة أمام الباب وأسأله بلهفة أن يعتني بنفسه. يرحل وأعانق صديقاتي بكثير من الشغف، أضع موسيقى وأضرب موعدا للخروج. أسلم على بائع البقالة في الحي وأبتسم للخباز وأسأل نادل المقهى عن أخباره وألوح لصديق مار على الطريق المقابلة ولا أتذكر شيئا من التفاصيل التي تذبحني منك.
إن الذي بقي منك كمثل الذي بقي من قرطاج -بما احتوته من ملحمات- في القرن الواحد والعشرين، غدا تنساه خلايا الجسد فتنكره الأماكن.
#يوميات
08/06/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.