تتراكم سنين العمر و تشتد معها طبقة البرد حول مجاري القلب، ينطفئ الشغف رويدا رويدا و تذبل معه الذكريات حد التلاشي. تقل حدة المرارة في الأشياء و ينعدم المذاق الحلو من كل التفاصيل التي كنا اشتهيناها ذات يوم. ينطفئ آخر شرر في القلب و تندثر المشاعر فيه إحساسا بإحساس.
لا أذكر يوما أني خفت من البؤس أو الوجع، و لم يؤرقني أن أفقد سعادتي الباهتة ذات صباح جديد، لأمر أجهله كنت واثقة أن ثنايا الحياة لا تعج إلا بالعلقم المر. ما خشيته من الأعماق حقا أن يتشوه مذاق الحزن ذات يوم فيغدو عقيما، و أن يتفتت معه الحلم عوض التماسك، أو أن لا أخاف من خسارة ما أفنيت سنين عمري أجمعه بمشقة.
اليوم، و على بعد أميال طويلة عن عفوية النبض الأول الذي عبر شراييني أدرك أن الأوان قد بدأ يفوت على إنقاذ فتات الروح الباقية، لقد فقدت حتى لذة الخوف، و لم يعد الفقدان يعني لي شيئا، لأنني باختصار بت أدرك أنني لا أملك شيئا بالمعنى المجرد. كهباءات الأكسجين التي تمر عبر القصبة الهوائية إلى الرئتين، كل شيء في هذا الوجود محض سلفة تقدمها لنا الحياة لكي نستمر حتى نقطة النهاية و في اللحظة المناسبة تسحبها منا إلى الأبد. إذا لماذا نخاف غلى فقدان ما ليس لنا؟
قبل سنوات، كل ما كنت أريده بصدق أن أبقى على هذه الأرض حيث نبت، أين تعلمت أبجدية الأشياء، و أين اتحدت ذرات المكونات في جسدي لتجعل روحي تتضخم و تعلو و تمتلء، كنت أريد أن أنظر في وجه أمي مع كل حزن جديد و أن أرتمي على ركبة أبي حين يحتل الخوف دقاتي الضئيلة... أردت أن أسكر من الحب، و أن أُلعن بهزة القلب الأولى الأبدية و أندثر في محاولات الحفاظ على كل شيء و حمايته من فكّي الخسارة، كان كل شيء جميلا، لقد نجحت هذه التفاصيل حقا في جعلي أحزن بصدق و أتوحد مع ذاتي أكثر.
الآن، أشعر أن كل شيء شارف على النهاية، هذه الروح الممتلئة هزلت كثيرا و ذاك الحزن صار أشبه بالنشاز الداخلي، و ذاك الخوف لم يعد يهز النفس حد الإرتعاد. صرت أعرف أنني لن أبقى على هذه الارض إلى الأبد، و أنني ذات يوم سأرحل و لن يبقى إلا الحنين و لهذا صرت أريد الرحيل من الآن إلى أبعد نقطة عن هنا... صار نظري في وجه والدي أشبه بلحظة أسرقها لتثبت في الذاكرة، العالم لم يعد زهريا و أنا أعرف أنهما ذات يوم سيتحولان إلى أجمل ذكرى مرت علي، لن يبقى إلا الألم الذي لا يمكن أن يكون عذبا بأي شكل. أدرك أن هزة القلب الأولى كانت دقة واحدة حاولت تمطيطها على سنوات و لكنها لابد و أن تنتهي يوما، إما بحريق دفين تبقى آثاره مشوهة بقائي، و إما بموت محتم بعد زمن لابأس به من الاعتياد.
لاشيء مقدس في الحياة و يستحق أن نحارب من أجله، و لا أن نخاف أو نشقى، نحن نولد كاملي التكوين محملين بكل شيء، و نخطو لنفقد يوما إثر يوم تلك الكنوز الثمينة في قلوبنا، لنصل إلى خط النهاية مجردين من كل شيء. هذه هي الحياة بالضبط، اختبار لمدى تحملنا الخسارات المتتالية.
أعتقد أني أدركت ما أريده بعد كل هذا البحث، أريد أن أتملص من كل مشاعري و أمنياتي و ما بقي ثابتا بين أصابعي و أن أتفرد بنفسي بعيدا، أن أغدو حقا كقوقعة فارغة في دهليز مغلق لا يصدر عنها أي صدى، و إن صدر فإنه سيلمس العدم و يندثر. أريد أن أتحرر من هوى القلب الكامل بعد أن صرت أراه أشبه بنغم فاسد يشوه انسجامي مع نفسي..
الإنتظار على عتبات الوداع قيد مقيت حقا، لم أعد أريد أن أنتظر... أريد أن أخسر دفعة واحدة.
30/08/2016
23:02
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.