في صمتك رنين

40 1 0
                                    

اعتدت أن أجلس عند الطاولة نفسها من ذلك المقهى الرديء في كل مساء، أطلب أرخص أنواع القهوة وأنصت إلى موسيقى الجاز عبر سماعات الأذن القديمة ثم تمضي الساعات وأنا أحدق  في الجميع دون أن أنبس بحرف. هيأتي توحي بأني امرأة برجوازية ومثقفة، عانس ويائسة من الحياة، وإلا لما جلست في مكان مشابه، وإلا طالبة علم نفس تعد أطروحة عن ردات الفعل البشرية وتبني نظرياتها اعتمادا على حفنة من الجرذان.

كنت أعرف كل وجه متكرر يأتي هنا، بعضهم لا يشدون انتباهي إطلاقا، وبعضهم تكفيني ربع ساعة لأكتشف ماضيهم ومستقبلهم كاملا وبعضهم يفتك بي لأسابيع طويلة. أسابيع أمضيها أتأمل تفاصيلهم الثابتة، أضيع بين النتوءات وأبحث في التضاريس  العميقة، ثم ينطفؤون مجددا.

ذلك المساء لم يكن مختلفا، جلست بذات الطريقة المملة  وانغمست في المراقبة الرتيبة.  أحدهم تقدم نحوي دون سابق دعوة، سحب كرسيا وجلس إلى طاولتي، وضع قهوته أمامي وعلى ما يبدو كان ينوي أن يجالسني. تملكتني فورة غضب بسبب هذا الاقتحام الوقح وتكهنت بأنه سيبدأ بالثرثرة اللامجدية، لكنه لم يقل شيئا. أرخى ذراعيه وحدق مباشرة داخل عيني بحدقتيه البندقيتين. تذكرت أنني رأيته من قبل، يقرأ جريدة شيوعية على ما أظن ولم أبالي به.

حدقت في عينيه بذات الطريقة، ارتخيت أيضا وهدأت نظرتي المهتاجة كي يغمرني السكون. لا أدري كم مر من الوقت قبل أن يبتسم ابتسامة ودودة فابتسمت له في المقابل. وضع ثمن قهوته فوق الطاولة ثم  أومأ برأسه شاكرا وغادر المقهى.

غمرتني سعادة رقيقة، كانت تلك أفضل محادثة حضيت بها طوال حياتي.

06/06/2019.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن