يس (٢)

48 0 0
                                    

 نشاز... نشاز.. نشاز..

كل ما في هذه الليلة يشبه النشاز، إن قلبي صامت جدا والصمت يجعل مدن الداخل أكثر بروزا ويجعل النشاز حادا وواضحا جدا. إنه النص الثاني الذي يتخذ البداية ذاتها ولكن المقام مختلف جدا، الآن أستطيع أن أغضب منك بشدة فأصرخ في وجهك ثم أغلق الباب بقوة أمامك وأتظاهر بأنني لا أبالي، الآن أعلم أنك قدر ما أردت أن لا تبالي فأنت تهتم سواء طرقت الباب لاحقا أو لم تفعل وسواء عدت لأفتحه أو لم أعد. في النص الأول كلانا كان يرتعش ويقيس درجة علو الصوت ومدى براءة المفردات، وحين يعبس وجهك كنت أنظر إليه بقلق شديد وأحدق فيك بعطف وأفكر في ألف طريقة كي أستخرج منك ذاك الوجع، الآن الأمر مختلف، بت أشعر أن عليك إدراك كون كل أشياءك تعنيني بطريقة ما، قد ألمح طيفا حزينا في نظرتك فأترك ما بيدي وأشد ذراعك وأسألك بإصرار، أشعر أن من حقي أن أسحبك إلى عناق وبكاء وأن أكشر في وجه العالم أجمع من أجلك. ولا أقول هذا لأي غرض، لست غاضبة منك حتى، إنني أقيس نشاز تلك الليلة ونشاز هذه الليلة وألاحظ الوقت الطويل الذي مر ونحن نتحدث، هناك جدران قد سقطت حقا، أستطيع أن أخبرك أي شيء بلا تفكير مسبق حتى، أنت تعرف أكثر مما ينبغي وأنا أعرفك كثيرا، وهذا لا يبدو غريبا البتة.

الليلة قلبي بارد أيضا والغرفة مظلمة وأنا لا أطيق الضوء، لا روائح في المكان ولا موسيقى، كل ذلك يبدو مزعجا، أريد أن أقول أن الغرفة فارغة لكن الغرفة ممتلئة بك، أراك بوضوح، بوضوح شديد لم أعهده، تفاصيلك الدقيقة جدا بارزة أمامي رغم العتمة، غائر في سريرك، نظراتك ملتهبة، يداك الرقيقتان تتحركان بكثرة، تداعب وجهك ولحيتك بإسراف، أرى احمرارا طفيفا تحت شعر لحيتك عند الفك الأيمن ربما، أصابعك ترتعش وأنا أحفظ الآن شكل أظافرك، ربما أستطيع تفريق يديك من بين آلاف الأيادي، عروق ذراعيك بارزة بشكل مثير ومشدودة بقوة جراء تقلباتك النفسية.. أنا أيضا لا أشعر أني بخير الليلة لكني لا أفكر إلا في دفنك داخل قلبي لأحميك، كنت أشاهد العالم القبيح من النافذة ثم عدت إليك، وضعت رأسي على حافة سريرك وبقيت أشاهدك، أستشعر هزة الفراش الخافتة وأستكين على إيقاع منخفض جدا لأنفاسك. الأمر غير متعلق أبدا بمدى تميزك، أحيانا أشعر أني فقط أتنفس من رئتك وأحيانا أشعر أن علي أن أقاسمك رئتي، أحيانا تتملكني رغبة الشعور بأنك موجود فقط وإن لم تقل أو تفعل شيئا، هل تعتقد أنك لو كنت نذلا قذرا غير موهوب إطلاقا سيتغير شيء في المشهد؟ كتبت لك أول نص وأنا أعتقد أنك نذل مختل متغطرس أساسا وربما زير نساء. هل تحدث رائحتك حين أعانقك أي فرق حقا سواء كانت تبغا أو عرقا أو عطرا فرنسيا باهظ الثمن؟ لا فرق البتة، حتى مفرداتك السوقية لو وجدت لا تصنع فرقا، أنت طيب جدا مصادفة، كلماتك ملونة جدا ومرحة مصادفة، رقيق جدا وراق جدا حين تجالسني مصادفة، ولكنني أعلم منذ البداية أنك عميق كالفضاء الرحب، وصادق كالمياه، ومتمرد وثائر وحساس جدا وأعلم أنك لا تشبه أحدا غيرك.  أضحك الآن بهستيريا وأبكي في الآن ذاته ولا أشعر بشيء البتة، كان قلبي معطبا عطبا كاملا وكنت أحدق في كل شيء بأعين فارغة ثم اكتشفت فجأة أنني أشعر بك، لاحظ هذا التعبير الدقيق، أشعر بك، أحسك، هاتين المفردتين لا تشبهان إطلاقا مفردتي أحبك وفيك ما يثير إعجابي، قد لا أحبك إطلاقا وقد لا تعجبني بأي شكل لكن انقسام الخلية في جسدك يغير في جسدي، شعورك بالأذى يغير في عدد النبضات التي يصدرها قلبي، لست طيبة ولا أعطي ذرة واحدة من سعادتي لأي بشري أيا كان، لماذا قد أفرط بشيء ثمين كهذا؟ كل ما نبذله في هذا الوجود ركض سريع جدا لكي نفتك بذرات السعادة، إنها باهظة الثمن جدا، كل شيء بلا جدوى أو معنى دونها، لكنني لو أعثر على طريقة واحدة للمبادلة فأنا أدفع لك أنت بالتحديد رصيدي كاملا، لأني أشعر بك والمبادلة لا تحدث فرقا. هذا جنوني، ألا تعتقد؟ وغير منطقي أبدا أيضا، لكن المنطق فكرة بشرية مبتذلة، ألا تظن؟

حين كتبت نص النشاز الأول كان يراودني شعور حاد جدا بأني أعرفك منذ ملايين السنوات الضوئية معرفة لا غبار عليها، ولكن ولأن الحياة مرتبطة بمنطق أحمق يستوجب تسلسلا واقعيا للأحداث وأن ترتبط كلها بعامل السببية بحيث لا شيء يحدث مصادفة هكذا أو سيسقط في خانة الافتعال والابتذال ولنقل بمنطلق الحياة الكذب والمبالغة وتلوين الحقائق كي تغدو ذات بهرج، من أجل كل هذا كان علي أن أتعرف عليك بشكل حضاري، مع أن الكاتب الذي كتب هذه القصة قد تلاعب بالأزمنة بشكل مربك وبعض النتائج الدقيقة جدا استبقت التجربة والحدث. أعتذر، لقد حل الفجر ولم أنم بعد ومنطق الكتابة الروائية يختلط في ذهني الآن مع منطق الحياة التي نحياها، لا أصدق أني أشرح كل شيء الآن من منطلق أدبي بحت وفي نص فوضوي جدا كهذا. الفوضى، كلانا تملأه الفوضى العارمة في كل شيء، كيف لا تكون الحبكة فوضوية هكذا إذا؟ الكاتب عبقري حقا.

البارحة وأنا أنصت لك، كتبت اسمي برسم خاطئ، كنت أعلم أنك غاضب ومنزعج جدا فلم أقل شيئا،  صارعت نزعتي الطبيعية للعثور على حلول مجدية أو إعطاء كم من النصائح المسقطة وحتى على مواساتك بأسلوب مستفز، كنت أعلم أنك غاضب جدا وعلي أن أحارب فطرتي الساذجة لكي لا أخلق فيك نشازا مربكا مع أنني أحدثته...الآن بت أضحك بذات الطفولة المبالغة، أشعر بالسكينة حين أحدثك ولا أفرق بين مجازك وبينك، غيابك الطويل يخلف داخلي أثرا مرعبا، شيء شبيه بتقلص الأكسجين في الدم وهذا ما يلامس روحي واقعا، أنني أعود إلى سجيتي  حين أستحضرك، يرحل شعوري بالحزن والقلق والألم ويتسلل عوضا عنه إحساس لذيذ. تخيل لو لم تكن حقيقيا؟ لا أحد على سطح الأرض يفهم ما أريد قوله، محض تخبطات أعايشها يستحيل أن تستكين، لا قلب يحتوي غربتي وغرابتي... إن كنت محض فكرة ابتكرتها فأنت الفكرة التي أصلي كثيرا لأنها خطرت لي، وأصلي كثيرا لأنك خطرت لله.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن