في حادثة موت الفلاحات

28 1 0
                                    

يا لقذارة الحياة وظلمها، ويا لمفارقاتها وتناقضاتها المضحكة...

هناك في بيت أنيق لا يروق لها، تستيقظ فتاة ذات بشرة رقيقة وملساء، تتثاءب وتتمطط على مهل، تنظر إلى الساعة التي تشير إلى الثامنة والنصف، تتأفف وتدفع جسدها برفق كي تقوم، تغسل وجهها بماء دافئ وصابون يحمي البشرة من الجفاف، تضع زيتا معطرا على خصلاتها الملساء وتسرح شعرها بعناية مفرطة ثم تشده جيدا، ترتدي ملابس زاهية وتشعر بالإحباط الشديد إذا لم تتناسب الألوان، تفتش عن حذاء مناسب، تختار عطرا يليق بهذا الفصل من هذه السنة، تضع أحمر الشفاه وطلاء الأظافر ثم تأخذ حقيبتها وتخرج بخطوات مطمئنة نحو الجامعة بآخر الشارع.

تشتري قهوة من الكافيتيريا ثم تسير إلى الفصل، تجلس على كرسي مريح تتابع الدرس الممل، ترتشف القهوة وتنصت من خلال سماعة واحدة إلى إحدى معزوفات بيتهوفن أو موزارت وتفكر بعمق شديد في آلامها النفسية وأحلامها البعيدة ورغباتها المتذبذبة. تأخذ فسحة بين الساعات لكي تضحك مع رفاقها أو تتناول شيئا حلوا أو تسير مع بعض الأتراب إلى أحد المطاعم التي تقدم وجبات جيدة وشهية.

ينتهي اليوم الطويل والمرهق فتذهب إلى مقهى راق مع بعض الأصدقاء، تضع ساقا على ساق وتجلس بارتخاء على المقعد المبطن، يجلس قبالتها شاب يذوب في هواها وعلى جانبيها  وجوه تشاركها يومها بإخلاص، يضحكون جميعا، يطلبون ألوانا من المشروبات والحلوى ولا يفكرون إطلاقا بالمال الذي سيتم صرفه هناك، ما إن ينتهي تمتلئ بطاقات الائتمان بغيره. بعد دقائق تمضيها في طرح حوارات عميقة حول ما تكدس في عقلها من معارف وثقافات  وانتقادات حياتية وتحاليل تبدو مبهرة تقول بصوت رقيق أن الحياة بائسة وأنها عايشت كما من المظالم ارتسمت كعوائق أزلية لا يمكن تخطيها وأنها ما عادت تحتمل هذا العيش المرهق وهذا  الاضطهاد النفسي الحاد، تذرف دمعة حارة ويربت صديق على كتفها ويعانقها آخر.

في الضفة الأخرى من الحياة، تفتح امرأة ذات بشرة مترهلة وخشنة عينيها قبل آذان الفجر الأول، لا تعلم من كثرة الإعياء إن كانت نامت أصلا ولكنها تقوم بلا صوت، تغسل وجهها بماء متجمد وتكافح كي لا تسطك أسنانها وترتج عظامها، لا يوجد صابون معطر هناك، يوجد صابون أخضر فقط ولكنه كاف. تنطلق فورا إلى غربلة الدقيق والعجن وإعداد الإفطار وتنسى أنها متعبة حد الموت وأن الفراش الأرضي قاس جدا وأن الغرفة ذات الرطوبة العالية تسبب لها صعوبات في التنفس أحيانا. توقظ الأطفال النيام، ترتدي أي شيء ساتر ونظيف تدركه أصابعها، لا شيء أهم من الستر، لهذا وجدت الثياب وإلا فهي لا تعلم شيئا عن أي اختراع حديث  اسمه الموضة. تلف رغيفا داخل ملابسها وتغادر بخطى مسرعة، لا ترش عطرا باذخا ولا تضع أحمر شفاه ولا تعرف كل هذا، من كثرة التفكير والكد والتعب تنسى أحيانا أنها امرأة.

تركض مع جاراتها كي تلحق بالحافلة التي ستقلها إلى الحقول ليوم طويل من العمل الكادح لا تتخلله أي دقائق للراحة أو الترفيه. تغني أغنيات شعبية حفظتها من الأعراس، لماذا يغني الإنسان أساسا؟ ليفرح، لا تهم جودة الموسيقى إلى هذا الحد. تفكر بإسراف في الديون المتراكمة والمستحقات الكثيرة وكم يجب أن تعمل لتحقق نصف حاجتها، لا تعلم شيئا عن بطاقات البنوك التي تمتلئ لوحدها، لا تعرف شيئا عن المطاعم الفاخرة والمقاهي المترفة والمساءات المملوءة بالتسلية، بالكاد تحفظ اسم رئيس الجمهورية ولم تسمع يوما عن دوستويفسكي أو جورج أورويل ولا تدرك من الحياة إلا كيف تعيش يومها وكيف تؤمن اليوم التالي وكيف لا تموت من الجوع أو التعب. من شدة ثقل الحياة لم تتوصل بعد إلى إدراك أن هناك آلاما أخرى تهاجم النفس دون الجسد أو أن الإنسان يستطيع التألم فجأة دون سبب، حياتها هي تحديدا مثقلة فقط بأسباب الألم. ومع كل هذه التفاصيل مازالت تنظر إلى نفسها نظرة دونية محتقرة إذا ما قارنتها مع الفتاة الملساء من النصف الأول للنص، تعتقد أن الأخرى أفضل منها دوما ولكنها وعلى عكسها تحمد الله مع كل نفس جديد.

صباحا تنقلب الحافلة بالنساء الكادحات المعذبات بصمت، وتنام امرأتنا أخيرا نوما عميقا لا يكدره فراش قاس ولا فجر جديد، تنام فقط بلا إزعاج ولا تفكر مجددا في المال الذي لابد أن تجمعه لكي تتنفس الأكسيجين كالآخرين في الأيام القادمة.

تقرأ الفتاة الجميلة والرقيقة الخبر فتتألم ذاتها العميقة ويباغتها الحزن الشديد وتلعن هذه الحياة غير العادلة وتشفق على النساء المسكينات اللاتي لم تعلم عن وجود مثيلاتهن إلا الآن، تكتب في رثائهن نصا رنانا تملأه العواطف النبيلة، يقرأ النص شاب أنيق جدا ومثقف فيهلل ويصفق له ولروحها الراقية جدا ويتصل بها فورا ليخفف عنها بؤسها الثقيل، فلقد هز الخبر المرعب كيانها الهش.

هناك في الركن البارد الحزين من البيت المتآكل ذي الرطوبة العالية، يبكي أطفال صغار جياع فقدان العامود الصلب الوحيد الذي كان يسندهم ولا أحد يفكر في هذا بشكل جاد وحقيقي، لا أحد يفهم مثلهم عمق الوجع الذي أصابهم، الكل منشغل ببناء مجده واستعراض إنسانيته على حساب تلك الدماء التي غطت الطريق وتلك الأشلاء التي تناثرت هنا وهناك، وبعد عشر صباحات كأقصى تقدير سوف ننسى كلنا هذا الحدث الفظيع ولن يبقى من بكاء هذه الليلة وثقلها إلا أنين الصغار الجياع.

27/04/2019
23:07.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن