وضعت ملابس خفيفة في الحقيبة السوداء وقليلا من الأغراض التي قد أحتاجها لهذا الغياب المباغت. ارتديت معطفي الكحلي ثم غادرت البيت في هدوء قاتل. تلاعبت الريح بأطراف الحجاب القرمزي وقبلت وجهي وبعثرت شيئا من الحزن الذي امتد داخلي. ريح الشمال شابهت دوما عناقات خاطفة تجمع بها الحياة قلبينا لبعض حين، لكنها الليلة تهب جنوبية باردة وجافة، كأنها مقطوعة جنائزية مرة تزيد الغياب غيابا.
إنك تعلم، الأخبار على هذا الكوكب تعبر في سرعة البرق دون حاجة لجوازات السفر، والأسرار لا تنام في مراقدها بل تتسرب عبر مسامات الجدار وتبلغ في ركضها المسعور مدى أبعد من ذاك الذي تشتهيه قلوبنا الملتهبة، وأنا أعرف أنك تعيس جدا ومتعب، بل أعرف حتى عن كل المكائد التي تُدبر لك في اللحظة الحاضرة، تلك التي ستكون آخر من يعلمها بعد أن تقع في الجب قتيلا. إنني أعلم أنك على وشك أن تتلقى صفعة ترديك محتضرا، وأعرف كل الوجوه التي تحفر قبرك، وأعرف نكهة الموت الذي ينتظرك ومن أي ارتفاع ستسقط وكم عظمة من قفصك الصدري ستتهشم. ولا ترتعد، أما أنا فدون الجميع، لا أطعم نار المكائد لحمك، ولا أرفع خنجرا مسموما أشق به وجهك، ولا ألبس الألوان في موتك الموعود ولا أرقص حول دمائك ولا أنثر أحقادي القديمة كالملح في باطن جراحك... ولكنني لن أقدم قلبي طعاما للحرائق كي أنقذك. اغفر لي أنني لن أنقذك ولن أحول دون السهم الغادر ودونك، ولن أركض إليك كي أجمد بيدي كل نزيفك، وحين تأتيني صريعا تجد كل جدراني فارغة وكل الأبواب التي تقود إلي موصدة. اغفر لي أني هذه المرة أخذلك.
راعي يديك وأنت تطرق الخشب الصلب، ليس في البيت جسد متحرك كي يفك عقدة الباب. وارحم حبالك الصوتية فإن النداءات الطويلة تزيد من شروخ القلب وليس في الداخل صوت يجيبك. ولا تقعد طويلا على العتبات، الانتظار الأبدي علقم شديد يا صاحبي. ولا تقل يوما أني كنت مثلهم، لا والله ما كنت مثلهم يوما، ولكنني رحلت حين علمت أنك قادم نحوي لكي لا تخذلني أصابعي أمام نواحك وتسبقها اللهفة نحو مقبض الباب، لكي لا يخونني جسدي فيهرع إليك ويحتضنك، لكي لا أمسح عن وجنتيك دموعا استباحها مصير فضلته على قلبي، فشيد مصرعك.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.