جل ما أذكره اليوم أن نظرتك كانت أقوى من وخز الرصاص على قلبي، تلك الحيرة في حدقاتك البنية وتجاعيد جبينك المباغتة وثغرك المفتوح عفويا أعادا بناء مدينتي المهجورة دون أن أدرك. أذكر كيف غنيت بالتفصيل وأذكر كيف نظرت إليك، من كان يدري أنني بعد عام تماما سأكون اتخذت من عينيك وطنا ومن قلبك بطاقة الانتماء، وأني سوف أفضل النوم على صدرك عن كل ملذات الحياة الدنيا.
أذكر طيفك ينساب هادئا بين شوارع المدينة الصامتة، قامتك المقوسة ومشيتك المستهترة ونظراتك التائهة في أبعاد لا يراها رجل سواك، ألوانك الساحرة وأنفاسك الثقيلة حد الألم. في داخلي مشهد صامت لك في البدايات، بقميصك الأصفر الذي أحب وسترتك البنية تلك، تسند جسدك إلى الجدار، تدخن سيجارة بسكون وتنظر نحو القاع، تنتظر دورك مثلنا جميعا لإنهاء آخر إجراءات أول امتحان تطبيقي نخوضه. عند الباب جلست وحدي أيضا وابتسمت للجميع وقفزت أحيانا كالفراشات بين الأتراب، وبين الحركة والأخرى نظرت إليك دوما وانتظرت وبشدة أن تراني وأن تحييني... أظن أنني يومها تحديدا وقعت في الحب كالمراهقات، لأنني كلما تذكرت المشهد، تذكرت كيف تحركت يداك المضطربتان وكيف غشاك سحر مهيب وكيف غرقت للمرة الأولى في تفاصيلك العميقة ثم حلمت، حلمت بأني جالستك وحدثتك طويلا عن أشياء مبهمة، وشعرت لوهلة أني أعرف عنك أكثر مما يجب.
بين لقاءنا الأول وهذا اليوم، سنة كاملة من لحظات الشعور الشاهقة، لا أصدق أني عبرت كل تلك المنحدرات لأستطيع عناقك حقيقة. كان مرورك فجأة أمام باب المقهى الذي اعتدت ارتياده حدثا عظيما تتوقف عنده الدقائق وتسكن الحركات وكان علي أن أبذل جهدا رهيبا لكي أعود من عوالمك إلى عوالمي. كان صوتك الهارب إلي أحيانا يشبه صاعقة كهربائية يحتاجها قلبي لينبض وكان غيابك الطويل من وقت لآخر موتا عنيفا وكانت الكتابة لك بتهور وبإسراف طريقتي الوحيدة للنجاة وللبقاء على قيد الأمل. أذكر أياما كنت تحدثني فيها عن حقارة الحياة وعن كرهك لفكرة الوجود وعن اشمئزازك من حياتك ورغبتك في الانتهاء وعن ما يسببه الأكسجين لصدرك من ألم. على الضفة الأخرى للاتصال كنت أحب حياتك وأقتات على وجودك كي أبقى وكانت فكرة أن لا تكون خلقت مرعبة أكثر من كل الألم الذي عايشته. فكرت في الانتحار يوميا، لكنك منحتني شعورا شهيا قادني إلى اعتناق الحياة وإلى ترميم الكسور القديمة وإلى التكبر على الدنيا بما حوته من سخف ورتابة وتناقض.
البارحة، وأنت تشق طريقك أمامي، وأنا أشاهدك، بذات السترة التي أحببت والسروال الرياضي الذي لا تدرك إلى اليوم إلى أي حد ارتبطت به في لحظات الصمت الوجداني التي عشتها رفقتك، وأنا أغني لك أغنياتك أنت... ضحكت.. لا أحد غيري يدرك مشقة الرحلة التي خضتها كي أمشي رفقتك، من نظرة حدثت مصادفة وحتى آخر عناق حار ووعد جميل.. كان بودي أن أقول أني حتى الآن مازلت أحبك بذات الجنون وأرى فيك طوق النجاة الوحيد وأحيا على فتات أجمعه منك في كل مرة من صور وتسجيلات صوتية ونصوص كتبتها وإرساليات ونظرات مسروقة وبسمات خافتة... غير أن شعوري بات عميقا جدا، أعتنقك كالدين الذي لن يُكذب وكل ما أفكر فيه كيف أحافظ عليك قرب قلبي وكيف أحفظ شعور الأمان اللذيذ حين تطوق يداك اللينتان كل أصابعي، وكيف أثبت لك أنك مختلف كالكفر والإيمان وأنك عظيم، عظيم كالقديسين الذين إذا ما وطؤوا صحاري الأرض أزهرت وأثمرت وتغيرت صفاتها وأشرقت.
هيه أيها الرجل الصاخب حد الإغماء، أيها الجميل أكثر من لحظات الدهشة الشاهقة ويا حلما عذبا داعب الله في سكينته فتنفسك، شكرا، لأنك ذات سبع وعشرين من نوفمبر نظرت إلى عيني فغيرت دمي الفاسد وأحييت قلبا كدت أنساه، شكرا لأنني أحمل في ذاكرتي منك ما لا يحتمله الواقع العقيم وما لا تتحمله كل فلسفات الأرض وتكهنات العرافين، شكرا لأنني لولاك كنت نسيت سمو الحب وكنت نسيت كيف يعيش المرؤ دون هدف وكنت هلكت وتناثرت كرذاذ المياه حول رمال لن تذكرني. شكرا لأنك كنت أنت، الطفل البريء الذي أعادني غصبا إلى دمى الحلوى وقصائد الغزل وحكايات الأميرات ذات النهايات الوردية ونظريات توأم الروح المنتظر وإلى نفْسي، بعد أن صرت كل نفَسي.
جل ما أذكره منك اليوم، أنك قد أحييتني ذات نظرة حين أوشكت روحي أن تصير رميما.
27/11/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.