ألعنك آلاف المرات قبل النوم، وقبل أن أغمض جفني أدعو أن لا يصدقني الله، ولا يصدقني الله إطلاقا حين أغضب منك أو أحقد عليك، يرى في كل ليل أني أسهر بضع ساعات أرتب ذاكرتي وأنفض عن وجهك كل الغبار، وأبتسم خلسة حين يمر ظلك الخفيف داخلي.
الحياة تمنحنا أحيانا بسخاء شديد ولكننا لكثرة تعلقنا بالوهم ننبذ الحقيقة وننكرها ونبقى نلاحق السراب البعيد، وحين نفقد بوصلة الطريق ننتبه بغتة لكوننا ضيعنا سبيل الماء الذي ظنناه قليلا اعتقادا منا بأن الآتي كثير، في حين كان ذاك النبع البعيد هو كل الماء الذي يروي ولا ينضب. لا عجب في كون السنوات تمضي بكامل ظلمها وغيابك ومع هذا أتشبث بك تشبث الطفل الصغير برداء والدته. لم يحبني بشري على هذه الأرض قدر ما فعلت، لم ينطق رجل قبلك أو بعدك اسمي كآية من الآيات العظيمات ثم أغمض عينيه مقشعرا كما فعلت، لم يرسم أحد ملامحي على الماء ثم أجبر الموج على حفظ كل تلك التفاصيل، لم يكتب أحد في كل طيف من أطيافي خاطرة أو قصيدة قدر ما فعلت وبذات العمق والصدى ثم أزهق روحه في الكلمات كي يحرك روحي، لم يجمع أحد قبلك دموعي كما تُجمّعُ اللآلئ ثم راح يصنع منها عقدا مبهرا يعلقه على صدري كي أبتسم، لم يعانقني قلب قبلك بذات الدفئ والحنو والتفهم، ولم يحاول غيرك أن يحل رموزي ويفكك ألغازي بذات الصبر والاهتمام ولم يسجد غيرك أمام تماثيلي ثم تمنى لو يصلب عندي كالمسيح الجديد، لم يخلق رجل آخر من حكايتنا إنجيلا مقدسا كما فعلت ولم أكن يوما القضية الجدلية قدر ما كنت في حضرتك.. وكل هذا مر سريعا أمام ناظري ولم أدركه، لم أدركه، لم أدركه أبدا حتى فقدته.
ذنب قلبي يا طفلي الجميل أن فارق التوقيت بيننا كان شاسعا وكانت قدرتي على تشرب الحب الأصيل أضعف من قدرتك وكنت مازلت بدائية ومبتدئة وخائفة وغير واثقة وكثير الإغراءات والأوهام والأحلام القريبة المستحيلة يغويني. كنت ممكنا جدا وكنت مهووسة بالبحث عن الحب المستحيل المعتق الذي نفتك به بتعب شديد ويستمر معنا حتى القبر ولم أفهم لحظتها أنك كل الحب الذي كنت أفتش عنه وأنك أنت دون الجميع كنت النصف الضائع لهذه الروح، لكنك حين أدركتني أنكرتك وحين عثرت علي بعد كل أتعابك ضيعتك. كل محاولاتي اليائسة لإرجاعك وكل محاولاتك البائسة للعودة باءت بالفشل والذنب ذنبي...
لو أني ما تسرعت ولا تكبرت ولا تشنجت وقبلت بك قدرا جميلا وأيقنت سريعا أن الحب ليس ما نلاحقه ونطمع فيه ونركض خلفه ونفني أنفسنا على عتباته، كل هذا لا يشبه الحب في شيء، إنها محض رغبة أنانية في إثبات الذات والتملك، شيء من التحدي الساذج الذي نسعى من خلاله أن نقول لأنفسنا أننا نستطيع الحصول على كل ما نريد فنفنى وتضيع منا الروح على جوانب الطرقات.. الحب كان يشبهك تماما، بلسم بارد طاهر نقي يمتد حول قروح النفس لكي يشفيها، وحضن عميق جدا يحتوي كسورنا ويعيد ترتيب العظام المهشمة فينا، عين لا تنام حتى ننام ولا تستكين حتى يسكن ما فينا من وجع وتضج حيرة وأرقا حين تعلو منا الآه أو ترتعش بغتة أصابع اليدين. رنة خافتة تولد بين الشفاه حين تنطق أسماءنا وشيء من روح الإله يبزغ على محيانا حين نلوح من العدم، ويد صلبة تقبض على أيادينا وتسير بنا طول الطريق تسندنا ونسندها، وأحاديث طويلة لا نملها تفيض فيها الذات براحة لامتناهية ونتعرى أثناءها بلا خوف. مجهر عملاق يحط على كل النتوءات والثغرات والنواقص الممتدة داخلنا فلا تخيف ولا ترهب، وقابلية خارقة لامتصاص أمراضنا وتقبل عاهاتنا والانسجام مع إيقاعاتنا المجنونة. الحب يشبهك تماما يا صاحبي، جسدين وروحين ينصهران في وجود واحد، نصير معا نهرا سخيا ونحفظ ما فينا من أبعاد الهوية المختلفة على ضفتين متقابلتين، نكون ولا نكون في آن واحد، ولا عيب في كل هذا أبدا. قطعتين من أحجية معقدة، تكتمل إذا ما التحمنا ويظهر النقش كاملا على سطحها وتختفي في لقاء الجزئين كل الندوب على الأطراف. لم يكن الركض المنهك غاية يوما بل الاسترخاء الجميل اللذيذ والإيقاع الهادئ المريح والحيز الشاسع من الأمان والاطمئنان والثقة، الثقة بأن كتفا صلبة قربنا سوف تسندنا حتى القيامة.
لو تدري فقط، كم صرت هامشا في غيابك، ديانة منبوذة وآلهة متروكة وصنم متآكل مهشم لا يُغري، ولا صوت ولا روح. لو تدري فقط، كم أشتاق لعهدك القديم وحضورك الذي خلته عابرا مؤقتا ككل فرصة يسيرة فكان سرمديا قاتلا. لو تعلم فقط كم أندم على خسارتك وكم يأكل الذنب قلبي المتعب وكم غدا حبك عميقا في داخلي رغم الغياب... ما كان ضرني يوم قلت أحبك لو قلت أحبك أيضا واكتفيت؟ ما كان ضرني لو تركت عالمي وجنوني وهوسي وأفكاري اللئيمة وتكبري وظني بأنك محض محب أرقى قليلا من كل الآخرين ثم ركضت إليك؟ ما ضرني لو توقفت عندك ولم أبحث حين وجدتك بين يدي عن نجم أكبر منك وكل النجوم دونك ليست نجوما حتى؟ ما ضرني يا سيدي لو بدل الجحود جمعت قلبك بين راحتي وقبلت صدرك ثم سكنت إليك؟
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Ngẫu nhiênحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.