لقد سقطت الأندلس منذ مئات السنين يا قلبي، وتغير اسمها وتغيرت ملامح سكانها وماتت أغانيها وذبلت شوارعها وانتحر الياسمين على جدرانها. لقد صار الصبي الذي أحببته إسبانيا واعتنق المسيحية ونطق لسانه بغير لسانك وراح يحب امرأة شقراء تجيد رقص الفلامنكو، يشتري لها النبيذ كل مساء وتفسح له المجال كل ليلة كي يزرع الأركيد بين نهديها، أما أنت فقد صرت عربيا جدا، تعد سنين النكبة وتعيد رواية التاريخ بلا تحريف على الأجيال وتلقي الخطابات الحماسية ولا تمل من قراءة مسرحية صقر قريش. تحتفظ بكل نوتة من النوتات القديمة وتبني قرطبة جديدة في كل فجر. مازالت المآذن داخلك لا تكف عن التلاوة الخاشعة وتخبئ بناتك وجوههن خلف البراقع استحياء، مازلت مسلما جدا ومسالما ومكسورا كحضارة آفلة ومازلت غارقا في الذكريات والدم البريء يسيل من غمدك وتئن كالرجل الأخير الناجي من الحرب، مكسور المفاصل.
وفي كل مساء، تجلس على صخرة عالية تشاهد ماضيك الجميل، تشاهد أندلسك المقدسة من خلف المضيق ويخنقك الألم كلما ناداها عابر بإسبانيا. تراه عند الضفة الأخرى يراقصها، يحدثها بلسان لا تفقهه، يغازلها، يعانقها، يضاجعها، فيجرحك أنه لم يعد لك بعد أن كان كلك ويقتلك كيف خان العهد العظيم، ذبح الحضارة وانسلخ عن التاريخ وهجر المساجد العتيقة وارتدى جلدا لا يشبهه واكتسب ذاكرة جديدة لست اسما سيخلد على جدرانها.
مالذي يبكيك الليلة يا صاحبي؟ لقد مات كل الذين عاشوا بأندلس وانطفأت حرائق غرناطة وجفت دموع قرطبة وذاب الحزن عند المداخل وصار العصر الأموي قصة عظيمة تحكيها النساء الحالمات للأطفال الصغار كأنها أساطير ألف ليلة وليلة، وذاك الصبي الجميل قد صار سعيدا جدا ونسيك ضمن كل ما نسى.
إن دموعك عربية جدا يا صاحبي، ما عادت أنهار إشبيلية قادرة على تجرعها، فلا تبقى ساكنا عندك ولا تبكي ولا تحزن ولا تقضي عمرك مكسورا بلا وطن، غدا يصنع الله لك وطنا أجمل من كل أندلس ويخلق لك صبيا وفيا لا يحب الشقراوات ولا تثمله خطوات الفلامنكو ولا يصير لسانه إسبانيا وإن سقطت ألف أندلس.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.