رقصة على مسرح الريح

1.1K 78 35
                                    

النص الفائز بالجائزة الأولى بمسابقة براعم الأدب في دورتها الثانية، قليبية، تونس.

تمت كتابته و نشره في مارس 2013.

__________________________________

في ركن من الغرفة , جلست تحمل خيبتها تضاجع أنفاس الوحدة . ساكنة سرى البرد في كلّها و اغتال حرارتها , فلا ريحها فاحت و لا شفاه منذ الفجر تذكّرتها . مالت الى صحيفة تنتحب منذ ليلة أمس و همست: " كفى بكاءا فهو لن يأتي , لن يقرأ صحفية بعد و لن يشرب القهوة ".

****

على رصيف أحد الشوارع كان يسيل رويدا , يبطئ لحن مشيته و يكتم ايقاع الخطوة كي لا ترنّ قيوده . يخطّ بعينيه مستقيما للسّير , و يجهد كي لا يتغافل , و يجهد كي لا يتعثّر . يضيق به الشّارع رغم اتّساعه , فتصبح أكتاف المارّين المصطدمة بكتفه جدرانا تهشّم جسده , و تصبح زقزقة العصافير نشازا أو أغنية احتضار . تهبّ من حيث لا يدري ريح باردة تحرّك أطراف الأشياء حوله و تدعوا الأشجار الى حفلة تصفيق . يعانقه البرد فينكمش على نفسه و يغمس يديه في جيبي معطفه فيتحسّس فجأة ما لا يشبه الفراغ , فيمسك بالجسم الغريب و يخرجه . تصفعه رائحة العطر , يتصفّح الورقة و يرمقها بازدراء ثم يفتحها و يقرأ : " أنت رجل يعبد القوانين و القواعد كلّها , و أنا امرأة تحبّ التّحليق في البحر , تحبّ السباحة في السّماء , أنت قيد و أنا أعشق الرّقص , و لهذا افترقنا... " . يأخذ نفسا عميقا كلحن استهزاء و يطلق الورقة الى الرّيح فتطير , تتمايل, تعلو , تنخفض , تهتزّ, ترقص بعبثية امرأة كان يعرفها , فيحيد ببصره عنها لأنّه باختصار رجل يكره العبث.

ينتهي مجرى سيلانه على شاطئ بحر , يعلم أنّ اجتياز البحر مخاطرة , فهو رجل مقيّد بنظامه الخاص و مثله لم يتعلّم السباحة . ينتصب كالمكسوّ بالخطايا أمام اله , صامتا كشيئ تكسّر . يهتاج البحر يرسل جيوشا من أمواج , تزمجر , تهدّد , تضرب الأرض بسياط من أطرافها و لا يتحرّك . تتضرّع السماء فيهطل المطر في ثورة , تلسع القطرات سمرة وجهه , يبكي صدره و لا يتحرّك . تلفته بتلات ورد زهرية تتمايل و الموج في انسجام , تقبّل الماء يقبّلها الماء و يسأل في سرّه من أين للبحر بالورد ؟ ينظر , على بعد خطوات منه تقف فتاة شابّة , على رأسها قبّعة تداعبها الريح و شعر راقص , و على وجنتيها قبلات مطر و بيدها سلّة ورود زهريّة تغازل فستانا يعانق جسدها . تحرقها جمرتان تحملقان بها فتبادله النظّر و تبتسم له ثمّ تلوّح , و يعود الى بحره كأنّها لم تكن , كأنّ غيره و البحر منعدم . فجأة , يد غيداء تربّت على كتفه فيلتفت في ذعر يقابل سواد عينيها , فعيناها ليل غصّ بالحكايا . تقف بجانبه مواصلة الابتسام و تقول :" لي أخ غريق هنا أعزّيني بارسال الزهور له ." فلا يبالي بقولها و لا يبالي بحضورها فتضيف :" أنت رجل غاضب و أنا امرأة منتشية و من الغضب و النّشوة تزهر الثّورات ." فيجيبها ساخرا :" أنا قيد و أنت امرأة قد تهوين الرّقص ." فتقترب من أذنه في رشاقة و توشوش :" بل أنت راقص و أنا رقصة . تغنّي الملائكة في السّماء , فلنصعد الى الملائكة." و تلتفّ على يده تجرّه خلفها , تركض به فيركض و ينسى تدريجيا أنّه رجل مقيّد .و تصعد به الصّخور صخرة صخرة و توصله الى قمّة يتكبّر فوقها على البحر , فتجلسه على حافّة يحاول الموج ارسال قذائفه اليها فيعجز , و تأخذ نفسا عميقا ثم تضحك فيضحك . تضغط على يده و تهمس :" كان زوربا كلّما شعر بالسّوء يرقص , علّمني أنّ للحريّة منّا ثمن لابدّ من دفعه كالرّقص على جثث أحزاننا . كلّما شعرت بالسّوء حلمت بالقفز من هذه القمّة , لو أنّ لي شجاعة القفز." . تتنهّد و تسمح للصّمت أن يغتصبهما ,و تتشبّث بيده أكثر ثم تأوي رأسها أحد كتفيه , و ينشغل هو بالتّفكير بينما تكتفي بألاّ تفعل شيئا . بعض المقاصد من كلماتها كانت تتعرّى , كان يوشك على الفهم عندما بردت يداها فجأة , التفت اليها فوجدها تغطّ في النّوم , فكّر أن يغطّيها بمعطفه فحاول ايقاظها مرّة , مرّتين , مرّات عدّة قبل أن يدرك الأمر . مذهولا راقب تفاصيل استسلامها , هي التي مسافة كلمة واحدة كانت ترغب بالقفز , مسافة كلمة واحدة لم تقفز خائفة من الموت ,و مسافة الكلمة ذاتها ماتت في سكينتها تحلم بالقفز . غاصا بالمفاجأة , بنشوتها و غضبه همس مرتجفا :" لا تحمينا قيودنا إلا من الموت كما نشاء , و رغما عنها سنموت ."

يبعد رأسها عن كتفه و يقوم من جلسته , يحملها بين يديه و يعانقها , فيشتعل حماسا و يقترب أكثر من الحافّة و يبتسم بثقة أكبر , ينظر إليها :" هلّمي نحلّق " . و يرمي بنفسه إلى الرّيح . يندفع الهواء نحوه في ثورة و يجرّب لذّة التّحليق مرّة أولى . فيتذكّر ورقة ألقاها رقصت مع الرّيح , و يتذكّر أنّه راقص و أنّها رقصة و أنّ الرّيح مسرح للرّقص . يشابك يديها, يدفعها عنه و يردّها اليه , يديرها و يستدير معها , يرفعها و ينزلها , يرتفع و ينزل عنها , يهزّها و يهتزّ معها و تبدأ الملائكة بالغناء كلّما تحرّكا . يراقبها تحلّق, تتلوّي , فيفتن بها , يجذبها , يلتصق بها , يثبّت رأسها , يحاول تقبيلها , ثمّ يتراجع , فالقبلة قيد و هو في موكب حرّية , يترك يدها و يدفعها , يفتح ذراعيه كطائر متمرّد و يخترق صفحة الماء فيغطس و يغطس و يغطس مولودا فجنينا فنطفة . تغطس معه فيراها تتحرّك تلقائيا , تفتح عينيها و تبتسم له ثم تتلاشى و يأكلها الضّباب . يغمض جفنيه و يحاول معاودة الرّقص فيحول الماء دون ذلك و دون تنفّسه و دون أن تبلغه شمس أشعّت فوقه .و يتذكّر أن يتّصل بامرأة هجرته و يسألها :" سيّدتي هل تقبلين الرّقص معي؟"
أن يعود الى الغرفة فيأنس قهوته و يمسح حزن صحيفته , أن يبتسم للنّاس الذين اصطدموا بكتفيه و يلوّح لفتاة كانت ترمي بالورد إلى البحر . يحاول التّحليق فيبدأ بالارتفاع , نطفة فجنينا , لتشرق الشمس على وجه كسته الملوحة كما لم تفعل , و يولد حرا كالقصيدة .

__________

بقلم صبرين المالكي

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن