الساعة تشير الآن إلى الرابعة صباحا، أقف عند الشرفة، أفتح ذراعي وسعهما ثم تعانقني الريح. في الريح شيء من رفق الله ومن الشوق لو كنا نشعر.
تغادر الأحزان الثقيلة قلبي وتنطفئ القروح المشتعلة، يشتد وجهي بياضا وتتسع مساماتي وأصدق أني سأستطيع التحليق بعد حين.
أفتح عيني ما إن تستكين الريح فأرى خيطا رقيقا من الضوء المحمر يفيض في كبد السماء، وأرى وجهك المتفرد في ابتسمات الصباح الخافتة. إن الأحزان تشبههم جميعا ولكن السعادة والسكينة وساعات السحر لا تشبهك إلا أنت، وهذا غريب، غريب ذاك الأثر الطيب وذاك العبق الذي يمتد في داخلي حين أهب إليك وحين تهب إلي، وغريب كيف أخوض غمار الحياة بإسراف، كيف أجرب كل المتع، كيف أراقص كل أصناف البشر، كيف أتمزق ضحكا في الطرقات فتتآكل روحي ويذبل شغفي حتى آتي إليك، أنت الذي أرفض أن أخوضك أو أقترب منك أو أنظر لك أو أفكر فيك بأي منطلق إنساني ثابت، أرفض أن تكون قصة تُحكى فيفهمها امرئ على الأرض سوانا أو يصنفها أو يحللها أو يعتقد أنه بلغ منها عمقا واضحا يسمح له بأن يضعها في خانات الاستثناءات، أرفض ألا تكون شبيها برمز خاص أو شيفرة خطيرة أو سر يُفضح فتنفضح معه كل أسرار الوجود.
أحب كثيرا أنني لا أفهم المغزى منك، لا أفهم كيف تجسدت كظل يظهر بغتة ويعرف عني أكثر مما أعرف. أحب أن شعوري نحوك غير محدد وغير مكرر وغير مرتبط بأقدار وأحداث وخط زماني واضح وإطار ثابت وحبكة محنكة لا تخطئ. أحب أنك تنطفئ حينا وتشتعل آخر، تغيب وترجع، تمنحني ساعات كافية من الصمت لكي أشكلك كالعنقاء، جسد ثم مجاز ثم ظل أجوف ثم عدم ثم حضور آخر أكثر ضوءا. أحب حالات الوعي التي تتملكني حين تصير في الأرجاء، وكيف أراك ولا أنظر لك، وكيف أمر بقربك كأنك غريب وأنت الأقرب من كل قريب، وكيف أسمع كلماتك التي تمتد إلي بلا صوت، وكيف تتجسد حين نكون هناك لغة دون حروف أو كلمات. أحب أني حين أستحضرك تدور الشمس جهة الغرب ويعود بنا التقويم إلى الخلف وتختلط المفاهيم وتفقد ذرات الكون كل المعنى ولا يبقى من المعنى إلا أنت.
أحدق في الافق الممتد، يبزغ لي وجه الله مضيئا عذبا فأسأله عنك كأني أسأله عن معجزة ما كان عليها أن تحدث بعد نزول القرآن، فتعود الريح برفق تعانق قلبي وتداعب روحي وتدغدغ وجداني فأبتسم. أغمض عيني ثانية، أتحسس نفسا دافئا فوق عنقي وأعلم أنه أنت، أتراجع خطوة لأسند رأسي على صدرك، ترفع أصابعك اللينة وتحط بها على كتفي ويطوقني ذاك الأمان الرقيق، هذا الكون البشع يذبل حين أفكر فيك، يصبح أغنية بلا عنوان لا يهم أن أتذكرها، ولا تؤثر لحظات النشاز المرة في النغم على نبضي لأنك تبقى تهمس قربي بأن لا شيء يستحيل احتماله. أدور بجسدي نحوك وأنظر مباشرة إلى عينيك، لا يهمني من تفاصيل وجهك إلا ما يتسلل فيها من شعورك، أخاف على قلبك جدا من ذبحات الشعور ومن لحظات الألم الصامت والخيبة والعطش، أرى في داخلك ماض يتوهج وشيء من التخبط والقلق والحيرة والخوف مع أنك تبتسم كثيرا.
أعانق قلبك، ستكون بخير، أقول له.
سأكون بخير، أقول لقلبي.
سنكون بخير، أقول لنا.أغفو على ظلك، وتعانقنا الريح.
21/04/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.