حكاية 53

31 3 0
                                    

"-إنتِ واحدة موسوسة ومجنونة، ابعدي عننا بقى."
"-دي أفكارها المجنونة وصلت بيها لإنها تعمل كدا؟ دي اتجننت خالص."
"-أنا مش عارفة ايه جابرنا عليكِ بصراحة، ولا عارفة ليه مستحملينك كدا وإنتِ واحدة مش طبيعية أصلا."

مسكت المـ... وس وكل دا بيتردد في دماغي، ايدي بتترعش من الخوف، مش عارفة أعمل ايه، ولا عارفة أكمل، ولا عارفة هما ليه جابوني هنا ورموني الرمية دي، بس كل اللي أعرفه ومتأكدة منه إن مفيش حد بيحبني، أنا مليش مكان وسطهم، مليش مكان في قلوبهم، مليش مكان وسط عيلتي، صحابي، معارفي، قرايبي، منبوذة من الكل، كله شايفني مجنونة، موسوسة، أو إني بأفكاري دي هأذيهم، ميعرفوش إنها مش بتأذي غيري أنا بس.

-إنتِ بتعملي ايه؟
اتخضيت والمـ... وس وقع من ايدي لكنه عورني وهو بيقع.

-يعني ينفع اللي عملتيه دا؟
كانت ماسكة ايدي وبتربطها بعد ما اتعورت، لكني مكنتش مركزة معاها، كنت بس مركزة على منظر الدم اللي على الأرض، ولما هي لمحتني باصة ناحية الدم قامت بسرعة ومسحته لأنها عارفة إن منظره كدا هيضايقني.

-ايه اللي حصل بقى؟
-عايزة أنام.
-بس أنا عايزة أسمعك.
شديت اللحاف عليا ونمت، أو حاولت أنام، لكن الأرق ملازمني من سنين ومش بعرف أنام بالساهل، بدون ضريبة، بدون ألم، بدون عياط، بدون ذكريات مؤلمة، بدون حياة ملهاش أي معنى.

-هو انتوا بتحبوني؟
-أكيد.
-مش بحس منكوا بالحب أبدا.
ضحكت:
-يمكن لأنك مش بتحسي أصلا؟

-ماما الحقيني.
-في ايه يا وش المصايب؟
كنت عايزة أحكيلها ايه حصل، لكن ردها خلاني أسكت:
-مفيش حاجة، تصبحي على خير.

-كفاية بقى، إنتِ هتطلعي مرضك علينا؟
-أنا معملتش حاجة لكل دا!
-كل دا ومعملتيش؟ أومال لو هتعملي كنتِ هتعملي فينا ايه؟ ارحمينا بقى.
-بس المفروض إننا صحاب!
-كنا، كنا صحاب، واحنا مبقيناش نستحملك ولا نستحمل أسئلتك المتكررة للمليون مرة، ولا أفكارك السوداوية، ولا اكتئابك المستمر، ابعدي عننا وروحي اتعالجي وبعدين نفكر هنبقى صحاب ولا لأ، لكن متفضليش كدا، إنتِ توكسيك يا كيان، وطول ما إنتِ معانا هيوصل بينا الحال في يوم إننا نبقى شبهك.

وكذا موقف، وكذا كلمة، وكذا خذلان وحزن وقهر، انتهوا كلهم بطريق واحد، وإن أهلي رموني هنا في المستشفى عشان أتعالج، وهو في حد بيتعالج من أفكاره؟

-بيتحكم فيها.
-مش عارفة، مش بعرف.
-ممكن تهدي؟
-مش بعرف أهدى، أنا طول الوقت كدا.
-ممكن تعتبريني صاحبتك؟
بعدت عنها:
-لأ، هتبعدي زيهم، اخرجي، امشي من هنا، مش عايزة أكلم حد.

لما أكون وحيدة بمزاجي، أحسن ما الوحدة تتفرض عليا، وأنا مش مستعدة أخوض التجربة مرة تانية، أنا تعبت.

-عاملة ايه النهاردة؟
بصيت ناحيتها ورجعت بصيت ناحية الشباك مرة تانية، أنا مش عايزاها تقرب، ليه هي متمسكة أوي كدا؟
-ينفع أكلمك عن نفسي شوية؟
مردتش فقالت:
-بيقولوا السكوت علامة الرضا، فهتكلم بقى، وأتمنى متزهقيش مني.
عمري ما زهقت من حد، كنت دايما بسمع الكل بشغف وحب واهتمام، لكن أنا ملقتش اللي يسمعني، يمكن لأن فاقد الشيء بيُعطيه؟
ابتسمت وكملت كلام:
-أنا وعد، دكتورة نفسية زي ما أكيد إنتِ عارفة، عندي 27 سنة، وأنا في سنك كنت بمُر بتجارب صعبة كتير، وفي نهاية السنة السادسة ليا في كلية الطب اكتشفت إن عندي وسواس قهري، أيوة متبصيش ليا كدا أنا ما زال عندي وسواس قهري لحد دلوقتي، وعشان كدا قررت أتخصص طب نفسي رغم إن عمري ما كنت أتخيل حاجة زي دي، بدأت أدرس الحاجات أكتر، الأمراض، وكيفية علاجها بطرق بسيطة وفعالة، واللي اندمجت فيه أكتر في دراستي هو الوسواس القهري، بحكم إنه عندي أصلا.
كنت باصة ليها باهتمام وشغف، مستنياها تكمل، مستنياها تقول حل يخلصني من اللي بمُر بيه في حياتي، مش عايزة أفضل كدا، مش عايزة أكمل والكل بيبعد عني وبيخاف مني وكأني منبوذة ومكروهة من الكل.
كملت كلامها:
-الكل بيشوف إن الوسواس القهري في النظافة والترتيب، لكنهم مش بيشوفوا أهم حاجة وأخطر حاجة، وهي إن أبشع شيء فيه هو أفكاره، أفكار مؤذية بطريقة محدش ممكن يتخيلها، وفاة حد بتحبه، أذى لنفسك، أذى لغيرك، وأفكار دينية وحشة جدا، محدش يعرف إن الأفكار دي مش بتأذي حد غير صاحبها وبس، ممكن آه في بعض الأوقات الأفكار بتغير في شخصية الواحد، بتخليه وحيد ومنطوي ومش عارف يتعامل مع بشر، لكن العلاج الوحيد مش بيكون بدكتور ولا بأدوية، لأن مفيش حد بيتعافى من الوسواس بشكل نهائي.
-معنى كلامك إنك لسه لحد دلوقتي مريضة بيه؟
-بالظبط.
-وعايشة حياتك عادي؟
-حبيت، اتجوزت، وخلفت، وبشتغل، وبعالج مرضى كتير، حياتي مستقرة إلى حد ما، مش ألطف حاجة دايما ودي هي الحياة وطبيعتها، لكن قدرت أتعايش مع الوضع.
سألتها بكل شغف جوايا:
-ازاي؟ ازاي قدرتي تعملي كدا؟ ازاي قدرتي تعيشي وتكملي وسط العالم بدون ما تحسي إنك منبوذة منهم؟
-ببساطة تقبلت نفسي، حبيتها، وبدأت أهتم بنفسي، احنا دايما في كل أمور حياتنا بنسيب الجانب الحلو من الموضوع وبنشوف بس الجانب الوحش والسلبي، كل حاجة بتحصل في حياتنا بيكون ليها سبب، وبيكون وراها خير كتير أوي، الوسواس القهري مؤلم، ومؤذي، لكن أي شيء ممكن نحوله من حاجة وحشة لحاجة جميلة، تركيزك في أبسط التفاصيل ممكن يخلق ليكِ عالم تاني، بس اختاري تفاصيلك اللي تحبي تركزي فيها، شوفي كل شيء بجانب إيجابي، حطيله مليون سبب ومليون عذر ومليون حجة، هتشوفي الفرق وقتها، وهتعرفي إنك تتخطي أي كلام سلبي بيتقال ليكِ، لأنك هتكوني واثقة إنه مش صح أبدا، حِبي نفسك وخليكِ دايما واثقة فيها، ساعتها كل اللي حواليكي هيحبوكي.
-وأهلي؟
-مالهم أهلك؟
-اللي رموني هنا، واللي عمرهم ما تقبلوا فكرة إني بنتهم، واللي عمرهم ما حبوني أصلا، وما صدقوا لقوا طريقة يتخلصوا بيها مني ورموني هنا، أرجعلهم تاني؟
-عايزة ترجعيلهم؟
-عايزة أرجع لنفسي.
-يبقى اختاري نفسك، وابدأي حياتك من جديد، لوحدك.
-أنا دايما كنت لوحدي، بس مقدرتش أبدأ من جديد، معرفتش.
-يمكن لأنك محاولتيش بطريقة صح؟ يمكن لأنك حاولتي مرة ولما فشلتي بطلتي تحاولي تاني؟
-أنا عايزة أخرج من هنا، أنا العلاج بيتعبني، بحسه مش بيفرق معايا بشيء، بل بالعكس بقى يخليني مش بعرف أنام، وبالتالي بفكر أكتر، أنا وجودي هنا بيأذيني أكتر ما بيفيدني.
-عايزة تخرجي؟ ليكِ كامل الحرية.
-وأخرج أروح فين ولا لمين؟
ابتسمت:
-سيبي الموضوع دا عليا أنا.

كيان الغيثحيث تعيش القصص. اكتشف الآن