١٠١

1.2K 54 13
                                    

=

يقف يوسف المراهق وراء نافذة بيت أحمد منكمشا من البرد.. عليه ملابس مهترئة وقذرة، شعره منكوش ووجهه نفسه متسخ.. وكان حافيا..
نكتةٌ لا يعرفها إلا من جرب العيش في الشوارع: الأحذية كالذهب في مجتمع الإنسان المشرد.
كان قد وجد حذاءً بالمصادفة منذ مدة، وانتعلَه ممتنا لشعور شيء غير الحصى والألم والقذارة على قدميه.. ولكنه سُرق منه حين كان يستحم في أحد الحمامات العامة.. وهكذا عادت قدماه لتعانيا وتتمزقا من جديد.

اعتدل ليستند على قدمه اليسرى بدل اليمنى وهو يخبئ نفسه بحرص وسط الأشجار.. تأمل أحمد الذي كان جالسا في الصالة، معه صديقٌ له، ومنال التي كانت جالسة في حضنه منشغلة بلعبة ما..
لعل عمر منال وقتها لم يتجاوز خمس سنين، لعله كان أقل من ذلك.. لم يرحمها ذلك من نظرات يوسف المسلطة عليها بحقد وكراهية..
ضغط يوسف على بطنه متألما لشدة جوعه.. ومسح بعينيه المنضدة في الداخل والتي كانت عليها أكواب شاي وصحون متنوعة من الكعك الإنجليزي الفاخر..

: بابا.. أنا جائعة!
وصل صوتها ليوسف بينما كانت تمسك ببراءة وجنة أبيها كي تلفت انتباهه عن صديقه الذي كان منشغلا معه بنقاش طويل..
ابتسم لها أحمد وعبث بشعرها قبل أن يبدأ بإطعامها كعكا.. كان يطعمها بيديه، يقبلها بين الفينة والأخرى، وكانت تمضغ كل لقمة بهناءة وهي تتابع حديث الاثنين دون أن تفهم منه شيئا..

بلع يوسف ريقه وعاد ليبدل وقفته متعبا.. مضت ساعات لم يتحرك خلالها من هذا المكان.. وكأنه يتقصد تعذيب نفسه..
لقد اعتاد في الفترة الأولى بعد هروبه من بيت حسام أن يراقب حسام نفسه وعائلته.. كان يقضي أوقاتا يتجسس على ذلك البيت حتى لاحظ ازدياد الحرس ولم يعد يستطيع التسلل إلى هناك..
أما أحمد فكان بيته طبيعيا يسهل دخوله.. ولقد صار يوسف مهووسا بمراقبته ومنال وبملاحظة كل شيء في حياتهما.. لدرجة أنه كان يدوّن أهم التغيرات في حياتهما بمذكرة ممزقة كان قد التقطها من وسط المهملات.

إنه كالعادة يحس أنه صغير وضئيل ومسكين.. ضعيفٌ لاحول له ولا قوة.. ذليل ومُداس.. نظرات الشفقة من الناس تلاحقه مرة وتلاحقه نظرات الاحتقار والاشمئزاز مرات أخرى..
يرمي له الناس مالا في بعض الأحيان ليفقد عقله ويبدأ شجارا همجيا معهم.. لقد كان يفضل الموت جوعا على قبول الصدقة.
بينما هاهو أحمد يعيش هانئا مع ابنته اللعينة المدللة.. إنه يخسر مرة أخرى وكأن ماضيه كله يتكرر.. إنه الخاسر وأعداؤه يفوزون.. كل مرة.

أبعد عينه عن النافذة وفتش الكيس الذي يحمله معه ليخرج الجرائد التي جمعها..
لقد صمم أن يغير حياته، ولقد جهز خطة، خطة في غاية الوضوح كي يفعل ذلك.. لا مزيد من الذل، كان هذا قراره.
إنه يبحث في الجرائد عن شيء معين، يستهدف نوعا محددا من عروض الوظائف، أو تحديدا نوعا معينا من الشركات التي تقدم هذه العروض..
إنه وكي تنجح خطته، يفتش عن أي شركة أو منشأة يملكها رجل كبير السن، لا شركاء له، وليس له أبناء وبنات، أو على الأقل، ليس على وفاق معهم.
يقضي كل يوم باحثا ومقلّبا في الجرائد، يدخل أحيانا المكتبة كي يبحث أكثر وكي يقرأ في القطاعات التي تخدمها الشركات التي يستهدفها إذا ابتسم له الحظ واستطاع توفير قرش أو قرشين كي يستحم بها في الحمامات العامة.. فشكله القذر يجعل أي مكتبة تطرده دون تفكير.. وكان عليه أن يستحم ويهذب شكله قبل أن يحاول الدخول.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن