٥٩

1.4K 51 5
                                    

قال فارس بمرح لوالديه على مائدة الفطور: إذن؟ من سيوصلني اليوم للنادي؟
كان فارس يحاول ابتداع روح مرحة، فالجو متوتر منذ عزف منال ليلة الأمس، ولم يستطع أن يفهم السبب، رغم جهد منال ويوسف الواضح لإخفاء ذلك.
كان يوسف كئيبا منذ لحظتها، فتذكره للأوقات التي كانت منال تحبه فيها يؤلمه.. لقد كان تعلقها به يغذيه تماما كما كان يغذيه ألمها.
أما منال فكانت تعيش مشاعر متخبطة كثيرة، ولكن أهمها كان فكرةً واحدة لم تستوعبها وتحللها إلا مؤخرا: لقد تركت العزف، وتركت كل شيء حرفيا، بعد أن اغتصبها يوسف. لقد حولتها تلك الحادثة من إنسان له اهتمامات وميول ومواهب إلى مجرد عبوة لشيء يسميه الناس روحًا. لم يكن ترك أبيها لها هو ماحطمها، ولا معاملة يوسف القاسية لها، ولا الضرب والأذى والوحدة، لقد كانت تلك الحادثة، لا شيء غيرها.

ابتسمت منال لفارس بصعوبة: سأوصلك أنا.
حك فارس شعره وقال مبتسما برجاء: هل يمكن أن يأخذني بابا؟
قطبت حاجبيها ببعض الاستنكار.. قالت بحدة تعجب منها يوسف وفارس كلاهما: لماذا؟
لم يكن فارس يتوقع ردة فعل حادة على سؤاله العادي.. فكل ما أراده كان قضاء الوقت مع أبيه.. قال بتوتر: لا شيء. لافرق عندي.
انزعج يوسف من هذا الموقف، لقد حزن فارس دون معنى، قال بودّية: لا بأس يا فارس، سآخذك أنا.
نهضت منال وقالت بصرامة: كلا، سيذهب معي.
ازدادت الغرابة في الجو، وازداد استغراب كليهما.. قال يوسف بتعجب: لماذا؟
أجابت ببرود وهي تأخذ طبقها الفارغ وتتجه للمطبخ: لأنني قلتُ.
تنهد يوسف.. لقد عمل هو ومنال منذ ولد فارس وحتى الآن على أن يوضحوا له اشتراكية القرارات في المنزل، وحرصا أن يظهرا له أن كل شيء بينهما يجري بالمشاورة والاتفاق، وأنه لا أحد منهما يفرض رأيا على الآخر. وإجابتها هذه كانت تنقض كل ذلك العمل، كما كانت توضح أنهما ليسا على وفاق.

عبس فارس منزعجا ومحتارا.. عبث يوسف بشعره وقال حين اختفت منال: لاعليك، من الواضح أن عند ماما سببا لاتريد مناقشته الآن. سأتكلم معها. حسنا؟
أجاب فارس متذاكيا: تعني سببا لاتريد مناقشته أمامي؟
هز يوسف كتفيه: يبدو ذلك.
هز فارس رأسه بتذمر: أشياء الكبار هذه دائما تعيق الطريق!
ابتسم يوسف للتعليق ونهض للمطبخ.. كانت منال تجهز لنفسها كوب قهوة حين دخل.. قالت قبل أن ينطق، ودون أن تلتفت إليه: دعني أخمن، سيذهب فارس معك، وليس لي قولٌ في الأمر.
منذ سمع يوسف العزف مساء الأمس كان يريد أن يهدآ.. يريد الهرب من الشجار، يريد لحظةً واحدة من السكينة والود. سحب نفسا عميقا كي لا يغضب وقال بهدوء: لماذا لاتريدينه أن يذهب معي؟
التفتت إليه..: لا أريد مناقشة الأمر الآن.
: متى إذن؟
عادت لتنشغل بقهوتها: لاحقا.
: ماذا تريدين أن أفعل؟
التفتت من جديد، قالت مشوّشة: ماذا؟
: ماذا يجب علي أن أفعل كي نهدأ ونصبح أفضل حالا؟
مصت شفتها السفلى.. وضعت كوب القهوة على الطاولة وتقدمت منه.. قطب حاجبيه مستغربا.. نظرت إلى عينيه وأشارت إلى معصمها الذي كان مكسورا: واحد.
ازدادت تقطيبته دون أن يفهم، أشارت إلى وجنتها حيث كانت كدمة مختبئة خلف المستحضرات: اثنان.
رفعت كمها إلى عضدها المزرق: ثلاثة.
ثم خفضت بنطالها قليلا لتظهر فخذها المضمد: أربعة.
حركت يدها لتشير إلى سبابتها حيث الإصابة الخامسة فأوقفها بعصبية: توقفي. حسنا. لقد فهمت. أرجوكِ توقفي!
ابتسمت ببرود، لقد وصلته فكرتها، ولكنها عقّبت: لن نهدأ ولن نصبح أفضل حالا. من الضروري أن تفهم هذا. ولكن، إذا كنت تهدف لتخفيف حدة الجو، يمكنك أن تختفي كما فعلت منذ مدة. لفّق عذرا واذهب. سيكون هذا مفيدا.
تغير وجهه: بالطبع لن أفعل. لقد كانت الأيام التي قضيتها دونكما أسوأ أيام حياتي!
تسارعت أنفاسها بعض الشيء وهدأت وبدا عليها الحزن.. تعجب من تحول مزاجها من الهجوم البارد والحدة إلى الضعف.. قالت بصوت متعب: ماذا عني أنا؟ ماذا عن الأيام التي تكون أسوأ أيام حياتي بسبب وجودك؟
لم يكن يستطيع الرد على هذا.. مرر سبابته على حاجبه مرتبكا، قال بهمس: كنتِ محقة، ليس علينا أن نتكلم الآن، سنفعل لاحقا.
قبل أن تجيب هرب من أمامها كي يتجنب ذلك النقاش.. لايمكنه مواجهتها حين يتصرف بأنانية، فماذا ستكون حجته سوى أنه الأقوى وأنه سيفعل مايريد دون اهتمام بمشاعرها، ودون أي اعتبار لمصلحةٍ إلا مصلحة نفسه؟

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن