٩٨

1.2K 64 3
                                    

حدق يوسف بنهى بعينين تشتعلان بالكراهية والبغض.. فيما ظلت هي واقفة أمامه بثبات، وكأنه لم يهددها بالقتل منذ ثوانٍ.

جز يوسف على أسنانه.. لم يرها يوما خائفة، لعلها أبدت اضطرابا يوم مصادمتهم في المطعم منذ زمن، ولكنه لم يكن خوفا حقيقيا.. ولم يكن خوفا منه، إنما كانت تخشى الحقيقة وراء ماكانوا يتحدثون عنه.
حتى حين حبسها لم تبدِ له خوفها. لقد عجز عن استطعام انتقامه منها كما فعل مع حسام. لقد تذوق انتقامه من حسام وأحس بطعمه حلوا لذيذا يجري في دمه.. أما هي.. لعنها داخل نفسه.. لاتمنحه مايريد.

تقدم منها خطوة وهو يحس أنه يفقد عقله بالتدريج، أوقفه صوت منال، كان صوتها ضعيفا ومتعبا جرّاء العملية ولكنها كانت تجاهد لتقويته: يوسف توقف! هل جننتَ؟ إنك تمنحها ماتريدُ هي! إيذاؤك لها سيمنحها النصر في المحكمة! نحن في المستشفى، لقد صورت كل كاميرا في الممرات دخولكما الغرفة معا، إنك تمنحها هدية أيها الغبي!

لم يكن هذا الهراء يعني يوسف وقتها، ولكن عينيه اتسعتا بذهول حين ابتسمت نهى وثبتت عينيها في عينيه وقالت: لا تقلقي منال، إنه لايستطيع فعل شيء لي. إنه يخافني. ألستَ كذلك أيها الولد؟ تدّعي القوة الآن، ولكنك تخاف مني، لازلت ترتعب مني كما ارتعبتَ طفلا في العاشرة.

تجمد يوسف ولم ينطق، وأحس بجفاف في حلقه، لقد اختفى غضبه العارم الذي كان يمنحه الشجاعة وتحول لشعور آخر غريب للغاية، شعور مألوف مع ذلك. لقد كان يرى في عيني نهى ذلك الاحتقار الذي آلمه كل طفولته، كان يرى فيها السلطة والتحكم والاشمئزاز، كان يرى فيها كل شيء يمقته ويخاف منه. كما كان يسمع في نبرتها ذلك التهديد الذي كان يجيء قبل الحبس، صوتُها ذاك جعله يحس أنه أمام تلك الغرفة الصغيرة الظلماء. كما كانت لفظة "الولد" التي نودي بها كثيرا في ذلك المنزل حتى أوشك أن ينسى اسمه، هي الضربة القاضية.

لطالما خاف نهى، ربما أكثر من خوفه من أبيه.. رغم أن نهى لم تؤذه جسديا من قبل كالأذى الجنوني الذي لحق به من أبيه.. ومع ذلك كان يضعف أمامها أكثر، ربما لأنها كانت دائما كشبح خفي، يظهر فجأة بعينين قاسيتين كالجليد ليرميه في الظلام دون أدنى شعور أو ضمير. لأنها كانت تحرمه حتى حقّ الكلام والتفاعل والتواصل، على عكس أبيه الذي كان يتكلم معه طويلا إذ كان الكلام وسيلة الاضطهاد النفسي الأفضل.
لم تكن نهى حتى تنظر إليه حين كان صغيرا، لم تكن تعيره اهتماما، كانت تريد أن تتخلص منه فقط. معها كان يحس أنه قذارة، أنه لا شيء، أنها ستفعل أي شيء كي يختفي من أمامها. أما أبوه فكان يتسلى بالاتصال بينهما، بعيون يوسف المكسورة أمامه، بكلماته المهزوزة وحروفه المتلعثمة، كان يحب أن يتفاعل معه.

ظل واقفا متيبسا وكأنه تحول إلى حجر.. اتسعت ابتسامة نهى بانتصار وتقدمت منه هي هذه المرة، ودون أن يحس تراجع خطوة إلى الخلف فيما تصبب العرق من جبينه.. يكاد يقسم أنه تراجع تلقائيا، لم يتحكم هو بحركته، لقد قام جسمه بردة الفعل تلك بنفسه.
قالت بنبرة سلسة: جبان، خائف ترتجف كالفئران، عنيف، وحيد ومنبوذ. كما أنت، لم تتغير البتة يا ولد.
ارتعد يوسف ولم ينطق، ظلت نهى تتقدم ببطء فيما تراجع هو خطوة تلو خطوة عاجزًا عن رفع عينيه المنفرجتين عن عينيها.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن