اقتربت من يوسف الذي كان مسترخيا على كرسيه.. مد يده وبحركة مدروسة أمسك بكفها ذات السبابة المجبرة.. لم تكن قبضته شديدة، ولكنها كانت محكمة.. لاحظت أن عيني أبيها مسلطتان بشدة على كفيهما المجتمعتين..
قال يوسف بخبث وهو ينفث دخان سيجارته: ماذا تظنين أن علي أن أفعل معه يامنال؟ هل يناسبه مافعلتُه بكِ؟ أم أن ذلك كثيرٌ؟
لم تكن منال مهتمة بطريقة يوسف الغبية في معاملتها.. إذ كانت مشغولة بأبيها، حيث لاحظت أنه كان يعاني وهو يراقبهما بينما يمرر كفه على صدره بحركة غريبة قبل أن يهمس بيأس: هذا يكفي..
التفتت إلى يوسف من جديد حين رفع يده قليلا عن كفها إلى الأعلى لتقبض على معصمها ثم ضغط عليه بقوة هذه المرة متعمدا إيلامها: أجيبي!
تغيرت ملامحها بوجع، فمعصمها أصلا يؤلمها دون تدخلات خارجية.. ومع ذلك راقبت أباها من جديد الذي بدا يواجه صعوبةً في التنفس..
نسيت ألمها، نظرت إلى يوسف وقالت: يوسف، لنتكلم على انفراد.
رفع يوسف حاجبيه وقال ببرود وهو يشد قبضته عليها أكثر: ليس الآن، فنحن نقضي وقتا عائليا حميميا.
نظرت إلى أبيها الذي لم يرفع عينيه عن معصمها الذي يعتصر في يد يوسف، إنه يريد الدفاع عنها ولكنه بالكاد يتنفس، وكان يغمغم بكلمات متقطعة محاولا النهوض. قالت بحدة لأحمد: اهدأ، لا تضطرب هكذا! إنه يستفزك فحسب، لاتكن سهل الاستفزاز كالأطفال، إنك تجعل من نفسك هدفا سهلا!
بدا أحمد مرتاعا، كيف تطلب منه أن يهدأ وهو يرى معصمها الذي سينكسر في يد يوسف؟ كاد أن يجيب ولكن منال التفتت إلى يوسف من جديد، تجمد حين استندت على يد الكنبة ووضعت كفها الحرة على وجنته لتجبره على النظر إلى عينيها.. فقد كان يتجنب مواجهتها النظر لشعوره بالخزي والخجل مما يفعل.
بلع ريقه وارتجف حين علقت عيناه في عينيها، أبعدت يدها عنه، قالت بنبرة جادة: من فضلك، هلا جئت لنتكلم؟ لأجلي يا يوسف؟
عض على شفته.. هذه اللعينة تعرف كيف تتلاعب به، فهي ونظراتها هذه نقطة ضعفه. وعبارة "من أجلي" التي ليست شيئا اعتادت قوله. لم يستطع أن يرفض.. فهاهو من جديد يحس أنه دنيء جدا، وحقير جدا، أنه أصغر من نملة. أنه يؤذيها بأنانية ليحقق مايريد دون أن يتعب نفسه بالتفكير بها.
خفف ضغطه على معصمها مباشرة وأفلتها.. نهض باستسلام، أشار لرجُليه إلى أحمد الذي بدا مستسلما غير قادر على المحاربة أكثر: لا تبعدا عينيكما عنه.
مشت منال بخطوات سريعة حتى وقفت خارج المنزل أمام بابه، تبعها يوسف منزعجا، فالاختلاء بها لن يساعده على التصرف بوضاعة، على العكس، سيجعله أكثر نعومة، وهذا مالم يكن يريد.
قال مبعدا عينيه عنها مرة أخرى: ماذا تريدين؟ اختصري الوقت على كلينا وساعديني بدلا من مقاومتي.كانت الصورة قد توضحت لمنال بعض الشيء.. فبعد سماعها لجدال يوسف وأبيها فهمت ماحصل، وفهمت أن أباها يحاول جعل نفسه هدفا لانتقام يوسف بدلا عنها.
بالطبع، هي تعرف أن يوسف لا ينتقم من أبيها حين يؤذيها، هي تفهم ذلك منذ زمن طويل. فهي بالنسبة ليوسف عائدة له، له وحده، لا لأبيها ولا لغيره. وهكذا بدا الموقف ساخرا بالنسبة لها، فوالدها يضحي بنفسه من أجل لا شيء.
ولكن تلك الأمور كانت كلها تافهة مقارنة بما كان يقلقها فعلا..
قالت ليوسف بقلق متجاهلة كلامه: هل رأيتَه؟
: ماذا؟
: يوسف، هل رأيتَ كيف يبدو؟
تنهد يوسف حين أدرك أنها تلاحظ ما لاحظه هو، حال أحمد المزري. قال بجفاء: نعم، ثم ماذا؟
شدت معطفها على جسمها وقالت هامسة: ماذا ستفعل به؟
: لم أقرر بعد.
: يوسف، انظر إلي، من فضلك.
انزعج يوسف، نظر إلى عينيها وقال بعصبية: ماذا؟ ماذا ستفعلين بي؟ لايمكنكِ تخديري بعينيكِ، لايمكنك لومي حين أحاول إيذاءه. -أشار إلى كتفه حيث الجرح الموجود بسببها- ألستِ تؤذينني حين تسنح لكِ الفرصة؟ كيف تلومينني على فعل الشيء ذاته لمن آذاني كل ذلك الأذى؟؟
سكتت لحظات، هي لم تلمه، لم تنطق بحرف، ومع ذلك هو يدافع عن نفسه باستماتة. عرفت أنه غارق في شعوره بالذنب ولهذا يتصرف بهجومية.. .
: أنا لم ألمك، أ-
قاطعها بعصبية وهو يرمي سيجارته أرضا: توقفي، لاتكملي، لن تقنعيني بشيء، لا أعرف لماذا طاوعتكِ. -التفت عنها- تحركي، سنعود.
عضت على شفتها حين مشى ليتجه إلى الداخل، وبحركة فاجأته أمسكت بمعصمه مانعةً إياه من التقدم، التفت بحركة حادة، ضاقت عيناه واستعد ليصرخ في وجهها، ولكنها بحركة فاجأته أكثر، تركت كفها تنزلق عن معصمه لتمسك كفه.. ارتجف ولم يتحرك.. إنه دائما يتجمد حين تبادر هي بملامسته أي نوع من الملامسة الحميمية.. فهو غالبا المبادِر، وحين تكسر هي هذه القاعدة، تذوب كل حواجزه ودفاعاته.. اقتربت منه أكثر، وثبتت عينيها وسط عينيه. بلع ريقه وتسارعت خفقات قلبه وسكن تماما..
تأملها، كانت أنفاسها سريعة، وأحس ببرودة يدها على يده الدافئة.. رأى على عينيها نظرات فيها خليط من الرجاء، الخوف، القلق، وشيء يشبه الصدمة. بدت له فعلا خائفة من شيء ما، لم يفهم ماذا كان. فهو لم يكن ليؤذيها أذًى حقيقيا أمام أحد، ولا حتى أمام أبيها، كل مافي الأمر أنه كان ليلقي بعض الكلمات والحركات المستفزة. وكان يعرف أنها تعرف ذلك.
قالت بصوت هامس، خائفٍ ومضطربٍ، جادٍّ جدا مع ذلك: يمكنني أن أتحمل أي شيء يا يوسف، أي شيء على الإطلاق. ولكنني لن أتحمل أن يموت أبي. إن آذيتَه الآن، أي نوع من الأذى، سيموت، لا شك في ذلك، انظر إليه، إنه بالكاد يمشي.
اشتدت عضلات يوسف، أحست بانتفاضة يده داخل يدها، بلعت ريقها محاولة أن تتماسك، وهي تحس بشيء كالحجر في حلقها.. تابعت بصوت أهدأ..: اسمعني، لا يهمني انتقامك منه، غضبك منه منطقي، إنه إنسان دنيء، ويستحق العقاب، ولكنه لايجب أن يموت، لن أتحمل أن يموت. لن يمكنني متابعة العيش بعدها.. -أفلتت كفه وهي ترتجف ارتجافا واضحا- انتقم منه بطريقتك، استعملني لأجل هذا، لا بأس، لكن لاتلمسه، لا تؤذه بدنيا، لن يتحمل. أرجوك يا يوسف، لست أحاول حمايته من الأذى، لا أهتم لو تألم أو عانى، أريده فقط أن يبقى على قيد الحياة!
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...