٤١

1.6K 47 6
                                    

ابتسمت منال حين دخل يوسف وفارس عليها في مكتبها، حيث جاءا بعد المدرسة كما اتفقت مسبقا مع يوسف. نهضت بعد أن كانت منغمسة في كتابة شفرة طويلة في الحاسوب..
قبلت فارس الذي بدا متحمسا وأقل إجهادا من حالته في الصباح.. فهو لم يسبق له أن زار مكانا كهذا من قبل.. تذكرت منال ذلك من تفحصه وعيونه الفضولية، إن يوسف لم يصطحبه من قبل لمكان عمله.. قررت أن عليهما إصلاح هذا لاحقا.

كان يوسف واقفا بتردد عند الباب يراقب منال التي كانت تري فارس محتويات الغرفة محاولةً مجاراة حماسه.. بدت له متعبة.. قال بهدوء: سأذهب الآن.
اتجهت منال اليه وقبلته بنعومة: حسنا اذن، بالتوفيق.
أحسا بعيون فارس المسلطة عليهما.. وجاهدا لإخفاء الجو المشدود شديد الغرابة بينهما. قال فارس: ماذا لو ذهبنا كلنا في نزهة بعد انتهاء عملكِ ماما؟
أجاب يوسف محيطا منال بذراعه: فكرة رائعة. ما رأيكِ؟
ارتاحت منال لردة الفعل هذه.. ابتسمت: ممتاز.
انسحب يوسف وعادت منال لعملها: سيكون عليك أن تبقى هادئا يا فارس.. اتفقنا؟
هز رأسه وأخذ يتجول في الغرفة الصغيرة بصمت متفحصا الأدوات والأجهزة والرفوف.. انشغلت منال وجلس فارس بعد فترة يقرأ بهدوء.
ابتسمت منال حيث أحست أن عادة القراءة الكثيرة عند فارس مكتسبة منها ومن يوسف في الوقت نفسه.
دخل المشرف على منال إلى الغرفة عدة مرات ليراجع معها عملها بحكم أنها جديدة، أحس فارس بالسعادة حين سمع إطراءه عليها وعلى عملها.

في نهاية اليوم غادرا المكان إلى مدينة الملاهي حيث التقى بهما يوسف هناك، قضى الثلاثة وقتا حسنا حيث ركز منال ويوسف كل طاقتهما على فارس وعلى مزاجه وشعوره ورغباته.. تناولوا العشاء وأخيرا عادوا إلى المنزل.
دخلت منال غرفتهما بعد أن بقيت مع فارس حتى نام.. كان يوسف يجفف شعره بعد ان استحم.. قطب حاجبيه حين نظر إليها..: مابالكِ؟ لا تبدين بخير!
نظرت إليه.. كانت فعلا تشعر بصداع شديد وطنين في أذنيها وبإرهاق.. ولكن ملاحظته بدت لها مضحكة، إذ أنه لاحظ تعبها خلال أقل من ثانية واحدة.
قالت بصوت خافت وهي تغلق الباب: أنا بخير.
سكت وتقدم منها.. أغمضت عينيها بتعب حين وقف أمامها ولم تتحرك.. وضع كفه على جبينها بقلق، ثم اراح شفتيه على جبينها متحسسا حرارتها.. قال بخوف: انتِ تشتعلين!
هزت رأسها بالنفي: لا.. انا بخير.. علي ان ارتاح فقط..
تحركت بتثاقل ورمت نفسها على السرير.. وقبل أن تمر دقيقة كانت تقفز من مكانها وتتحرك بسرعة إلى الحمام.. قطب حاجبيه وتابعها بعينيه، سمع صوتها تسعل من الداخل.. زفر.. انها تتقيأ.
يعرف حالتها هذه.. متى ما مرت بصدمة، او بضغط نفسي كبير تنهار هذا الانهيار.. حرارةٌ وقيء ووعكة صحية عامة.
دخل الى الحمام ليجدها جالسة على الارض امام المرحاض.. شعرها ملخبط وانفاسها سريعة ووجهها شديد الاحمرار.. كان منظرها مزريا..
تنهد متضايقا واقترب منها.. جلس على حافة المغطس المرتفعة والذي كان بجانبها.. مسح على شعرها مبعدا خصلاتها عن وجهها.. عبث بشعرها شاردا متأملا حالتهما البائسة هذه. دفع رأسها بنعومة وأرخاه على ركبته.. اراحت رأسها على ساقه بتعب شديد.. أخذ يمسح على جبينها ورأسها مرة تلو مرة بلطف.. قالت بهمس: لا أصدق اننا تركناه يقترب من فارس.
لم يعلق.. فمن الواضح عن من تتكلم.. تابعت بأسى: لا أصدق اننا تركناه يكلمه ويلمسه، لا اصدق اننا سمحنا له بالتواجد معه في نفس الغرفة.
قال بصوت هادئ وهو ينثر شعرها على ساقه ثم يدلك رأسها بأصابعه محاولا إراحتها: هدئي من روعك.. إنه مختلف معكما.. إنه لاينظر لفارس بتلك الطريقة.
دمعت عيناها.. كانت تحس أن رأسها كله يحترق.. وأن عينيها تشتعلان..: وهل هذا مهم؟ إنه شيطان. إنه مسخ حقير.
تنهد..: أعرف هذا يا منال.
كانت منال تفهم الآن لماذا كان يوسف يقول أنه تحسن، وأنه قطع شوطا مهما، حين سمح لها بالتواصل مع أبيها. إن هذا التواصل لايمكن أن يكون سهلا عليه. بالطبع، هي لا تمنحه أحقية التحكم بها، ولكنها ترى لماذا كان الأمر بالنسبة له صعبا.
نهض يوسف من مكانه بعد أن رفع رأسها عن ساقه بخفة.. بلل كفيه بالماء ثم انحنى إليها.. مسح وجهها بكفيه.. اغمضت عينيها حين احست ببرودة الماء تخفف ذلك الشعور الفظيع في رأسها.. قالت بصوت ضعيف: انا متعبة.
سحبها وأراح جبينها على كتفه وتمتم: أعرف. اسمحي لنفسك أن تنهاري مرة أو اثنتين.
لم تنطق وأرخت نفسها عليه شادةً جسمها إلى جسمه.. كانت في حالة فظيعة وكانت بحاجته.. فيزيائيا، جسمها ضعيف.. أطرافها مرتخية ورأسها ينفجر.. ونفسيا كانت في الحضيض. دماغها كان يعيد عليها ذكريات طفولتها السعيدة مع أبيها الحنون.. وصورة حكاية يوسف مع أبيها كانت تخترق هذه الذكريات وتحولها إلى شيء مقزز وبغيض.
تركها يوسف ترتاح دقائق عليه.. رغم انزعاجه لحالها كان يعجبه استنادها عليه واحتياجها له.. إنه يحب اللحظات التي يشعر فيها أنها لا تبغضه وتتمنى موته.. يحب أي بادرة تحمل شعورا منها.. نهض وحملها.. أخذها إلى السرير وأراح جسمها فوقه.. غاب لحظات وعاد بطبق فيه ماء بارد وفوطة صغيرة، وبكأس ماء وحبتي دواء.. جلس بجانبها، أسند كتفيها على ذراعه ورفعها قليلا.. وضع الحبتين في فمها بيده ثم أسقاها الماء.. لم تكن لها طاقة لتقاوم أو تناقش.. ولم تكن حتى تستطيع تحريك يديها.. وضع الكوب جانبا وبدأ يمرر الفوطة المبللة على وجهها ببطء ورقّة.. وصلت إلى أنفها رائحة مريحة.. لقد أضاف القليل من ماء الورد إلى الماء العادي كي يشعرها بالاسترخاء..
دمعت عيناها مجددا.. هذه المبادرات الرقيقة لا تفعل شيئا إلا زيادة الأمر سوءا..
فتحت عينيها وتأملته.. كان هو الآخر يراقبها بقلق غامر بادٍ على وجهه.. أخذ بلطف ينزع عنها ملابسها.. لم تنطق ولم تقاوم.. نهض وغير إعدادات التكييف في الغرفة.. ثم عاد وأحاط جسمها بشرشف خفيف.. أحست أنها تتحسن تدريجيا وأن جسمها يهدأ ويسترخي ويبرد.. وأن نسيما لطيفا يدور حولها.
بدأ يمسح الفوطة على ذراعيها وساقيها بذات الرتم الهادئ فيما مسح على رأسها ووجنتها بكفه..
التقت عيناها بعينيه.. وأحست بألم شديد في قلبها لحظتها.. وحشٌ أنجبها، ووحش آخر  يقاسمها سريرها ويعاملها الآن برقة وحنان لا يصدقان، ويراقبها بعينين يقطر منهما القلق والحب والحرص.
لم تعد تتحمل ذلك الشعور.. رغم حاجتها البالغة للعاطفة والحب الآن، لم تكن تتحمل وجوده.. إنه نافع ومؤذٍ، بل بالغ الأذى، في الوقت نفسه.
أغمضت عينيها وهمست: هلا خرجت؟
تنهد.. لقد دامت محبتها له مدة قصيرة جدا.. مسح على رأسها، قال بهدوء: سأفعل أي شيء يريحكِ. إنكِ حياتي يا منال. والمهم أن تكوني بخير.
عضت على شفتها وانزلقت هذه المرة الدمعة من عينيها.. لم تعد لها طاقة لهذا الأذى العاطفي الشديد.. انزعج حين رآها، لقد أدرك أن لطفه معها حتى يؤذيها. قبل جبينها قبلة طويلة وناعمة قبل أن ينسحب: نادني إذا احتجتِ أي شيء.
لم تجب وزفرت حين خرج.. هذه المرة الوحدة هي التي تؤذيها.. كانت بحاجة لمن يعتني بها.. ولم تكن بحالة تتحمل فيها البقاء وحيدة.. ابتسمت وسط كل هذا ساخرة من حالها..

جلس يوسف في الصالة منزعجا.. استرخى على الكنبة وأشغل نفسه بلعبة فيديو محاولا أن ينسى منال ووجهها المحمر الذابل وعينيها المرهقتين.. بعد مدة سمع صوت الباب ثم رأى فارس يأتي وهو يدعك عينيه الناعستين.. قطب حاجبيه: فارس.. هل أنت بخير؟ لماذا لم تنم؟
اقترب منه فارس مترددا..: لقد أفقت فجأة.. ولم أستطع النوم من جديد.. وشعرت بالعطش.. -تردد من جديد- ماذا عنك بابا؟ تبدو حزينا.
تنهد يوسف.. اعتدل في جلسته ومد يده: اقترب يا فارس..
اقترب منه فارس حتى وقف أمامه فمد يده وأمسك بكفه بلطف.. نظر إلى عينيه وقال: أنا حزين قليلا فقط، فأنا كذلك لم أستطع النوم، ولكن ماما نامت. وأنا معتاد على أن ننام في نفس الوقت. فشعرت ببعض الوحدة.
أحس فارس بالارتياح لهذا التبرير الذي أوحى له أنهما متفاهمان، بالطبع، كان هذا الغرض الذي ذكر يوسف التبرير من أجله.
ابتسم فارس وقال بلطف: ربما يمكنني مساعدتك على النوم كما تفعل معي ماما. هل أحكي لك حكاية؟
ابتسم يوسف هو الآخر ابتسامة واسعة متأثرا، احس إنه أحقر من أن يكون فارس اللطيف ابنه. انه نعمة لا يستحقها.
قرب فارس منه وقبل جبينه بحركة تلقائية صدرت من اعماق قلبه.. خفق قلب فارس بسرعة.. حيث ادرك ان هذه اول مرة يقبله ابوه فيها في حياته.. وكانت تلك القبلة ثمينة للغاية.
ابتعد يوسف عنه وعبث بشعره مبتسما: ماذا لو لعبنا؟ -ناوله يد التحكم بلعبة الفيديو- عشر دقائق حتى نحس بالنعاس من جديد.
قفز فارس جالسا بجانب ابيه متناولا يد التحكم.. لم يترك مسافة بينهما كعادته.. لم يكن يقصد ان يفعل ذلك، ولكن الشعور الذي يقول له ان يبقى بعيدا عن لم يكن حاضرا لحظتها. ولم يفكر به.

بقي يوسف مع فارس حتى نام وحمله الى سريره.. ثم عاد بتثاقل الى الغرفة، وجد منال نائمة هي الاخرى، كان ذلك متوقعا بسبب تأثير الدواء. حيث تعمد اختيار دواء يجعلها تنام اضافةً لخفض الحرارة كي ترتاح.
تلمس جبينها، حرارتها طبيعية.. غطاها بحرص ثم سحب غطاء اخر ونام على الاريكة.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن