التفتت اليه منال بنظرات مستخفة..: هذا طبيعي، انك تكسب رزقك. هل كنت لتقول له: لا امل في تحسنك، لاتعد الي مرة اخرى؟ انا لا اهتم حتى لو كنت تريد ان تعصره حتى اخر قطرة. انه يملك مالا كثيرا، يمكنك استغلاله. ولكن لا تجرؤ على جري في هذه النكتة.
اجاب الطبيب بهدوء: انني اكسب رزقي، هذا صحيح. ولكنني اثق بما افعل. هل تظنين ان فشلي في علاج يوسف سيفيدني؟ حتى ولو كسبت مالا، يمكن ليوسف تدمير سمعتي بكلمة واحدة منه للصحافة. هل استغلاله من مصلحتي؟
احتدت نظرات منال وسكتت.. تابع بجدية: انني ارى مرضاي من وجهة نظر طبية. وعلى هذا وباستعمال خبرتي احدد امكانية التحسن. وانا اقول ان بامكان حياتكما ان تكون افضل بكثير. ان احتياج يوسف لالحاق الاذى بك يتراكم ويزيد بسبب سلوكيات واشياء معينة، وبالسيطرة عليها، سيكون التعامل مع هذا الاحتياج اسهل بكثير.
اجابت منال ببرود: انك تتكلم وكان هذا احتياج مبرر. لا يمكنك ان تتصور كم يستفزني هذا.
: انه ليس مبررا يامنال.. ولكن، اعتبريني حاسوبًا، انني اخذ المعطيات واحسب النتائج. ان المعطيات التي هي حياة يوسف تنتج شخصا مثله. وهذا ما اتصرف بناء عليه.
قالت بحدة: اذا فكل شخص يمر بما مر به يوسف يسمح له بايذاء الاخرين؟
: طبعا لا. انا لا اقول انني اجد فعله مبررا، ولكنني اجده مفهوما طبيا، ولهذا استطيع معالجته.
زفرت.. قال الطبيب بجدية: انك تظنين يا منال ان تعاونك يعني تسامحكِ وليونتك. وهذا ليس صحيحا، انني لا اطلب منك ان تتسامحي مع يوسف، عليك ان تعرفي ان العلاج ليس استسلاما. انه تحسين لجودة حياتكم، ثلاثتكم.
: ان تحسين جودة حياتنا لن يحصل الا عندما اغض النظر عن جنون يوسف، وانك تحاول ان تجعلني افعل هذا، تحاول جعلي اتغاضى وانسى وافهم، و "اقدر" تغييره وتحسنه. انني لا اريد ان افعل هذا. ان هذا استسلام بالفعل.
: كلا، انني لن احاول جعلك تنسين، بل ساعلمك كيف تتذكرين دون ان يؤذيك هذا التذكر في الوقت نفسه. وكلما قل تأذيك قل تعبيرك عن التأذي، التعبير الذي يمكن لابنك ملاحظته كلما كبر، ويمكن ليوسف ملاحظته ويمكنه دفعه للمزيد من العنف.
صارت عيناها اكثر برودا: انك تتكلم عن شيء غير موجود.
ابتسم: جربيني.
تنهدت وسكتت.. قال يوسف بهدوء: يبدو انكما نسيتما وجودي. وبدأتما باغتيابي حتى.
: لم ننسك، ومع ذلك، اريد فعلا ان ارى منال وحدها الاسبوع القادم، وانت يا يوسف كذلك.
نظر يوسف الى منال منتظرا ردها.. اجابت بهدوء: سأفكر في الامر.
ابتسم الطبيب: هذا يضع نهاية لجلستنا اليوم اذا. انا سعيد برؤيتك يا منال، هناك اقتراح أخير أوصي به.
سكتا بانتظاره، قال: تبنيا حيوانا أليفا، كلبا أو قطة.
قطب يوسف حاجبيه: هل تمزح يا دكتور؟
: كلا. أنا أظن أنه سيكون لهذا أثر كبير في تحسين حياتكما. لا تتصوران كم أثق بهذا.
كانا لايزالان مستغربين من الاقتراح الذي بدا لهما غير منطقي.. : فكرا في الأمر فحسب..
ودعهما حتى الباب وصافحهما فيما هما خارجان.. ركبا السيارة، تغطي الملامح الكئيبة وجهيهما.
: لا تعدني الى البيت. خذني الى مقهى (...)
: لماذا؟
تنهدت غير مرتاحة للجواب: سالتقي بأبي.
قطب حاجبيه بشدة: لماذا ايضا؟
: انه يريد رؤيتي. كما انني سأحاول سؤاله بخصوص موضوع اسماء الغريب.
عض على شفتيه وسكت..: سامرّك وقت انتهاء المدرسة، لنصطحب فارس ونعود معا.
: حسنا.
ظلا على صمتهما حتى وصلا.. اوقف السيارة وقال بهدوء: لا تكثري لقاءاتك بهذا المخلوق.
رمقته بنظرة لم يفهمها.. نظرة باردة مليئة بالياس والسخرية، ثم نزلت صافقة الباب خلفها..
راقبها حتى دخلت، رأى من خلف الزجاج اباها الذي كان جالسا الى واحدة من الطاولات يقف، ثم يقبلها قبل أن يجلسا متقابلين.. تنهد مقاوما الرغبة في الدخول وتحطيم الطاولة فوق رأسه وحرك السيارة مغادرا المكان.
جلست منال بهدوء بعد أن حيت أباها.. والذي كان الحنان والقلق يفيضان من عينيه كالعادة..
: كيف حالكِ؟
كانت ترى في عينيه أنه يعرف جيدا جواب هذا السؤال.. فوجهها المجهد وملامحها المستنزفة تجيبان. ولكنه لم يعلق عن شيء مع ذلك.. : أنا بخير.
بدا وكأنه يتحرق للسؤال: مابال يدك!؟
تنهدت: لقد تعثرت. إنه لا شيء.
دلك جبينه بقلق.. ولكنه لم يتدخل: حسنا إذا.. -تنهد- لقد اشتقت لكِ كثيرا.
ابتسمت ابتسامة خفيفة.. إن أباها، رغم مساوئه، هو الوحيد الذي ترى حبه الصادق لها ينضح من عينيه. وترى استعداده للتضحية بأي شيء من أجلها. يبدو لها ان فظاعته كانسان مع كل من حوله جعلت كل جزء خيّر منه يتوجه لعلاقتهما.
تبادلا الاخبار والاحاديث واسترسلا. عندما جاءت لحظات الصمت بعد انتهائهما فاجأها: مازلتِ تصرين على العيش مع يوسف يا منال؟
تغير وجهها.. قالت بضيق: لقد كنتَ متفهما منذ بداية الجلسة. ولم تتطرق لهذه الاشياء، لماذا تفعل هذا الان؟
تنهد: لأنني اخاف عليك يا منال. لا تتصورين، طوال الوقت، كل لحظة من كل يوم افكر بك.
: هذا لا يهمني.
ابتسم بحزن: فعلا؟
تنهدت: لقد مللت من تكرار هذا.. انني لن اتعاطف معك، ان كل مايحصل لي ولك كان نتيجة انانيتك.
ظهرت ملامح الكآبة الشديدة على وجهه.. قال بيأس: لقد كان ذلك حلي الوحيد.. قلت لك هذا من قبل.
اجابت ببرود: انت لم تقل لي شيئا. لم تشرح لي اي تفاصيل، كيف تريدني ان اصدقك؟
تنهد..: حسنا منال.. أنت محقة. ساخبركِ.. لقد كنت في ورطة، تعرفين كيف كانت حياتي، لقد كانت متمحورة تماما حول التجارة، لقد كنت افعل كل شيء في سبيل اعمالي ومالي، ولقد حصلت ازمة مالية بيني وبين احد المرابين، والذي كان وجماعته شديدي الخطورة، كان علي ان اترك البلاد. حصل هذا وتطور خلال سنوات طفولتكِ. لقد قاموا بسد كل السبل، وهددوني بكِ. ولم يكن باستطاعتي ان اترك البلاد، ولا ان اهرب، ان بقيت، كنا سنموت كلانا. كان باستطاعة انسان بمركز يوسف وقوته فقط مساعدتي، ولقد كانت عنده علاقات معهم. فاشترط الحصول عليك. -تنهد- لقد فكرت ان اخدعه، واتركك عند امك، ولكنها رفضت اخذكِ. ومع ذلك فقد فكرت، ان بقاءك عنده سيحميكِ. لقد وعد بحمايتكِ منهم. ولو خرجتُ، يمكنني تدبر امري بعلاقاتي في الخارج، وكنت سأعود. ان بقاءك معه والذي كان سيدوم لبضعة شهور، او لسنة على الاكثر، كان افضل من موتك. ولهذا فعلت ما فعلت، وهربت.
ابتسمت منال بسخرية: يا لها من حكاية.. انت لم تستطع اخذي معك، حسنا، الم تستطع التواصل معي؟ هل تعرف كم ليلة بقيت بعد غيابك ساهرة او اعاني بسبب الكوابيس؟ وكم يوما بقيت بجانب النافذة متمنية بيأس ان المحك قادما؟
تنهد بألم: لم استطع التواصل معك. لقد اغلق القذر كل باب في وجهي. لقد كان وراءك حرس على مدار الساعة، انت تعرفين هذا. لقد ارسلتُ مرة شخصا ليسلمك مني رسالة فعاد باصابع مكسورة. عشرة اصابع مكسورة يامنال.
اغمضت عينيها ونفضت شعرها بعصبية..: انت تقول اذا ان يوسف هو الملام، لا انت؟
: كلا يا منال، انا الملام، انا من تركك. لم يكن علي ان اغادر دونكِ. وكان علي ان اعود حتى ولو كانت حياتي في خطر بعد ان استقررت هناك. ولكنني.. لقد فعلت ما ظننت انه الافضل وقتها. لقد تركتك عنده وانا اعرف انك لن تعيشي حياةً طيبة. انها غلطتي. لقد استطعت فعلا ان اعود الى البلاد بعد سنين، اظنك كنت في الرابعة عشر وقتها، ربما. حاولت رؤيتك ومنعني، وحاولت استعادتك ولكنني عرفت بعد المحاولات انني لن استطيع استعادتك منه ابدا. قانونيا، كان هو المسيطر، ان له اذرعا في كل جهاز امني في البلاد. واضطررت للانسحاب من المشهد.
سكت ونظر اليها برجاء.. كانت عيناها باردتين، شديدتي البرود. لقد عرفت الان ماذا يعني.. عندما عاد، انه اليوم الذي اغتصبها فيه يوسف لاول مرة.. لقد احس بالخطر والتهديد من عودة ابيها، وقرر ان يفعل ذلك كي يكون انتقامه حقيقيا.
تنهد: انكِ يا منال ضحية انانيتنا. انا وامكِ ويوسف.
صارت نظراتها اكثر برودا.. رأت الدموع تغرق عينيه..: ولكنني هنا يا منال. كلانا هنا.. وانا مستعد لتقديم اي شيء مقابل سعادتكِ ورضاك. انني هنا لمساعدتكِ.
مسحت وجهها بتعب. ان اباها شديد القسوة، عديم الرحمة، ومع ذلك ينقلب الى ملاك حنون حين يكون معها. هذه الدموع الرحيمة التي لم تمنعه من قتل ام يوسف ولا من التحرش بيوسف في طفولته. ومع ذلك، لان قلبها له.. لانها كانت بحاجة ماسة لمثل هذا الكلام.. لان انانية يوسف كانت تقتلها، وكانت تتعطش لهذا الدعم النفسي الذي احتاجته طيلة عمرها.. مد يده وامسك بكفها..: لا تعف عني.. يامنال.. اسمحي لي ان اكون بقربكِ فقط..
طبطبت على يده ولم تنطق.. انه منذ عاد الى حياتها لم يترك التواصل معها يوما واحدا.. لم يهملها ولم يغب حين احتاجته.. انه صادق في نواياه، ولكن، هل يكفي هذا لتسامحه؟
: لقد اردت سؤالك بخصوص اسماء.
قطب حاجبيه: مابالها؟
لقد طلبت اللقاء بي منذ يومين.. هل تعرف شيئا بخصوص هذا؟
: كلا! اننا لا نتواصل ابدا. بل اننا نحرص على ان لا نتواصل. ماذا ارادت منك؟
: لقد قالت هراءً عن الامومة واصلاح علاقتنا. ولكن ذلك لا يقنعني. فظننت ان لك يدا في الامر.
: لا. لا شأن لي بهذا.. ولكنه غريب بالفعل.
تركا المواضيع الحساسة وهدءا بعض الشيء وانشغلا بأحاديث عادية متبادلين أخبارهما.. رن هاتفها بعد فترة: سأكون عندكِ بعد خمس دقائق.
: حسنا.
اغلقت الهاتف وابتسمت لأبيها: سيمرني يوسف بعد قليل.
امتعض وجه ابيها بشدة.. ولكنه سكت غير راغب في تخريب حالة السلام النادرة بينهما.. : هل تعدينني انك ستنتبهين لنفسكِ يا منال؟ هل ستعتنين بها كما لو كنت انا من يعتني بها؟
سكتت.. وظهرت على وجهها ملامح حنونة يندر ان تُرى عليها.. لقد اثر بها قلقه هذا كثيرا..: لا تقلق علي. انني بخير.
سكت شادا كفه على كفها.. كان يوسف وقتها يدخل المقهى.. صر على اسنانه حين رأى كفيهما على الطاولة.. تقدم منهما: مساء الخير.. لا ارغب في مقاطعة وقتكما الابوي الحميم، ولكن.. -نظر الى منال- هل نذهب؟
سحبت حقيبتها ونهضت.. نهض والدها كذلك وهو يرمق يوسف بعدائية..
ابتسم يوسف وهو يحيط خصر منال بيده: مابالك يا احمد.. هل يزعجك شيء ما؟
ازدادت نظراته حدة ولم ينطق.. سحبت منال نفسها من يوسف بانزعاج وقالت بهدوء لأبيها: الى اللقاء اذا.. سنتفق لاحقا بخصوص لقائك بفارس.. انه يسأل عنك باستمرار..
ابتسم احمد بحنان وعانقها..: بالتاكيد.. وانا اشتاق له كثيرا..
جمدها العناق للحظات قبل ان تسترخي وتمسح على ظهره.. مسح على شعرها قبل ان يبتعد ويقبلها..: انا موجود دائما يا منال.. ستكونين دائما ابنتي الصغيرة.
كان يوسف يكاد يفقد اعصابه لهذا المشهد.. غمغم وهو يتحرك مغادرا: سنتأخر على فارس.
غادرت منال هي الاخرى تاركة والدها يتأملهما في حيرة.. لقد احتار دائما بخصوص طبيعة علاقتهما والتي لا يملك كثيرا من المعلومات حولها.. انه يتصور يوسف كوحش اهوج، وهو لاينسى شجارهما امامه حين كانت منال هاربة، وايذاء يوسف لها امامه، وكلماتها "لن اعود الى امبراطوريتك". ولجوءها له في حالة في غاية السوء كي تهرب. وتفضيلها الموت على العودة. ومع ذلك، يرى فارس يعشق اباه، ويمتدحه، ويبدو عليه انه يعيش في بيئة مستقرة وصحية. رغم ان تصوره ان يوسف كان ليؤذي منال وفارس ويعكر حياتهما، ولكن فارس يبدي العكس تماما. هل كان اذى يوسف لمنال ذلك اليوم شيئا متكررا ام حادثة عرضية؟ وماذا عن كسر يدها الان؟ وماذا عن وجود فارس اصلا؟ لقد تزوجا بعد حملها. فهل كانت الممارسة الجنسية اجبارا كي ينتقم يوسف منه ام اختيارا؟ لو كانت اجبارا فمنذ متى؟ ولو كانت اختيارا فهذا يعني انهما في وضع افضل من ما يتصور.
امسك برأسه لكثرة افكاره وتشوشها.. لم يعد يعرف كيف يتصرف.. قلقه عليها ياكل رأسه ويكاد يصيبه بالجنون..
راقبهما حتى ركبا واختفيا من امام ناظريه..
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...