١٧

2.6K 60 3
                                    

بعد سقوطه مباشرة شعرت وكأنها عادت إلى وعيها.. كل الجمود الذي كانت في داخله انكسر.. اهتزت حين برمج عقلها الموقف.. كانت تقف عارية وملخطة اليدين بالدم أمام يوسف الذي سقط أرضا فاقد الوعي بسكين في بطنه.. وابنهما كان ببساطة نائما في الغرفة المجاورة!
ضاقت انفاسها.. حاولت التوقف عن الارتجاف.. علمت أن عليها التصرف حالا..
طلبت الاسعاف بصوت بالكاد خرج.. غسلت يديها وارتدت ملابسها بسرعة محاولة تناسي الجسد المرمي في الحمام..
كان كل مايشغل عقلها هو فارس.. كان الوقت يسبق موعد استيقاظه بفترة.. لكنها كانت تعرف ان الامر سيتطلب تحقيقات.. كيف ستفسر لفارس انها محتجزة للتحقيق؟ ماذا سيحصل لو مات يوسف؟ ستعتقل، ماذا سيحصل لفارس؟ اغمضت عينيها لاعنة غباءها وانفعالها.. لقد اصابها يوسف بالجنون!
اتصلت بالمربية وامرتها ان تكون في المنزل خلال نصف ساعة..
وصل الاسعاف واخذ يوسف.. خرجت واقفلت باب الحمام كي تضمن عدم دخول احد الى هناك.. غطت كدمتها بسرعة وخرجت مع الاسعاف..
كان كل شيء سريعا.. لم تفكر ولم تحاول ان تفعل.. وصلت المربية بعد دقائق من خروجها.. اوصتها ان تخبر فارس ان عملا طرأ عليهما واضطرا للخروج لسفرة قصيرة وقريبة..
حاولت نسيان كل شيء والتركيز في ماسيحصل خلال الساعات القادمة.

: هل أنتِ زوجة السيد يوسف السيدة منال؟
: نعم.
: أبرزي هويتكِ.
كانت أمام اثنين من الشرطة، اصطحباها من أمام غرفته المحاطة برجاله وبحراسة مشددة، كالعادة. بعد أن اطمأنت من الطبيب أنه بخير. وسيفيق بعد مدة قصيرة.
: ماذا تعرفين بخصوص الحادثة؟
: أنا من فعل هذا.
:..... أنتِ من فعل هذا؟
: نعم.
كان صوتها ثابتا وهادئا. لم تكن مهتمة، هي تعرف أنه لن يسمح لهم بسجنها. وإن كانت لا تهتم لأجل نفسها.. إنما كان فارس هو الشيء الذي يعنيها..
: لماذا؟
: بلا سبب.
: سيدة منال، دعينا نتكلم بجدية ولا داعي للكلام الملتوي. سأسألكِ مرة أخرى، لماذا فعلتِ ذلك؟
: ......
: هل قام بإيذائك أو بالتعدي عليكِ؟
: كلا.
: هل كان بينكما شجار؟
: لا.
: أين كان ابنكما وقتها؟
: نائما.
: هل هذه هي المرة الأولى التي يؤذي فيها أحدكما الآخر؟
: نعم.
: إذا لم تبرري مافعلتِ، سيكون علينا احتجازكِ حتى يفيق.
: لا بأس.
تنهد الشرطي وأشار لزميله بأخذها للمكان المخصص للاحتجاز في المستشفى.

: إذا تقول لي أن هذا حصل عن طريق الخطأ؟
: بلا شك.
قال يوسف هذا بثقة رغم ضعف صوته بسبب التخدير والإرهاق.
: لماذا لم تقل زوجتك هذا إذا؟
: إنها تشعر بالذنب بالتأكيد، وتريد معاقبة نفسها. إنها لا تتحمل فكرة إيذائي.
: هلا شرحت كيف حصل وأصبت بطعنة في بطنك عن طريق الخطأ؟
: لقد تعثرت وسقطت فوقها فيما كانت السكين في يدها.
: هلا أعطيتني المزيد من التفاصيل؟
احتد صوته قليلا: لماذا يكون هذا مهما؟ إني لا أشتكي عليها، ولا أطلب تحقيقا، وأتنازل عن جميع حقوقي بخصوص الحادثة، فلماذا تكون التفاصيل هامة؟
: إ....
قاطعه يوسف بنفاد صبر: إنني متعب، ولا أريد التعرض للتحقيق ولا للضغط. أريد أن تقفل هذه القضية حالا، قبل أن تسمع بها الصحافة. أريد أن يطلق سراح زوجتي حالا، ولا أريد رؤية شرطي واحد داخل أو حول غرفتي!
كان هذا كافيا لإسكات الضابط المحقق، طلب توقيعا ثم انسحب بصمت.. تنهد يوسف وأرخى رأسه بتعب على الوسادة.. بمحض الصدفة، غرست السكين بين الأعضاء الحيوية، وليس خلالها..
قريبا من كبده، ومعدته، كان موته احتمالا واردا، أو احتياجه لمتبرع بالكبد. وفوق هذا كله، لو لم تستدع منال الإسعاف مباشرة، كان موته بسبب النزيف محتملا أيضا..
لم يكن يلومها، ولا للحظة، لم يفكر أنها مخطئة. إنها تملك كامل الحق فيما فعلت.. لقد تجبر أكثر مما يجب، ويستحق عقوبة أكبر من هذه.
فكر بعمق قبل أن تضربه الممرضة بإبرة، ونام.

لم تستغرب حين أخبرها الشرطي ببساطة أن بإمكانها الذهاب..
كانت قلقة على فارس، والذي مرت أكثر من ٢٠ ساعة منذ تركته..
خرجت فورا من المستشفى دون أن تفكر بالمرور على يوسف، واكتفت بالسؤال عن وضعه..
كان السائق التابع ليوسف بانتظارها كما توقعت، أوصلها، دخلت بخطوات عجلى وهي تنادي بصوت رقيق: فارس؟
سمعت صيحته من الداخل: ماما!!
ثم خطواته السريعة نحوها.. ابتسمت وانحنت حين أقبل نحوها، عانقته وحملته مستقيمة مرة أخرى.. لف ذراعيه حول رقبتها ودفن وجهه في كتفها.. استطاعت تمييز شهقات بكائه السريعة.. مسحت على رأسه وهمست: لقد عدت، لماذا أنت حزين ياصغيري؟
قال وسط شهقاته: أ..أين ذهبتِ... لماذا لم تخبريني؟
تنهدت وشدت يديها حوله أكثر وهي تجلس على الكنبة بخفة..: لقد اضطررت للذهاب بسرعة ولم أرد إيقاظك.. أنا آسفة فعلا..
أشارت للمربية أن تذهب بابتسامة خفيفة ثم عادت بتركيزها نحو فارس الذي هدأ قليلا ورفع رأسه عنها..: لماذا كان عليكِ أن تذهبي؟
ابتسمت وهي تمسح دموعه بلطف: هذا معقد ويخص العمل.. لا تهتم، سأحرص ألا يحصل مجددا.. اتفقنا؟
قال باستياء: هل تعدينني؟
: بالتأكيد!
كان تعلق فارس الزائد والمهووس بها يقلقها ويخيفها.. هو لايتحمل الابتعاد عنها، لا يأكل إلا معها.. اعتاد بصعوبة شديدة على النوم بعيدا عنها، كلما افترقا لفترة قصيرة كان يتأثر كثيرا، يصبح مزاجه سيئا وعصبيا ومتوترا قبل أن ينهار بالبكاء..
لم تكن تحب أنها نقطة ضعفه.. عليه أن يعتاد على فكرة أنها قد تذهب.. قد يحصل لها شيء ما.. هي لاتعرف متى ستموت، أو متى سيسبب لها يوسف الجنون!
ابتسم فارس وعانقها مجددا.. قبلت جبينه برقة وهمست: عليك أن تكون أقوى من ذلك.. لا شيء مخيف في غيابي ليوم يا فارس..
حدق بعينيها بخوف: لماذا تقولين ذلك؟ أين ستذهبين؟
مررت يدها في شعره وقالت بجدية: لن أذهب لأي مكان، لكن، عليك أن تكون قويا.. لا تتصرف كالمدللين! أنت تعرف أنك صديقي المفضل، صحيح؟ عليك أن تكون قويا إذن لتستطيع مساعدتي دائما!
هز رأسه بالإيجاب بملامح متأثرة.. تابعت هي بهدوء: هل ترى أني أتصرف مثلك حين أبتعد عنك؟ إنني أيضا أكره البقاء بعيدا عنك، لكني قوية كي أستطيع مساعدتك وحمايتك.. اتفقنا؟
ابتسم: اتفقنا!
مدت يدها فصفقها بيده دلالة الوعد..
: ألم يأتِ بابا معكِ؟
: كان عليه البقاء لفترة أطول.. سيعود قريبا..
ابتسم براحة.. نهضت وهي تسأله كيف قضى وقته مغيرة مجرى الحديث، بدلا ثيابهما، تناولا العشاء وناما متجاورين..

فتح باب المنزل واضعا كفه على بطنه، متكئا على العكاز الذي أخذه من المستشفى لتخفيف الضغط على جرحه.
ضد توصيات الأطباء، خرج فورا في اليوم التالي لإصابته، لم يكن يتحمل الجلوس في ذلك المكان أكثر. لم يهتم بما قالوا، خرج في منتصف الليل عائدا مباشرة إلى المنزل..
تحرك بهدوء ذاهبا إلى غرفته.. قطب حاجبيه باستغراب ممزوج بالضيق حين رأى منال نائمة مع فارس الذي كان يحتضن ذراعها باطمئنان.. مجددا شعر بوحدة غريبة.. كان خارج الصورة تماما..
علاقة منال بفارس تخلق في داخله أمورا كثيرة لا يفهمها.. كان من المضحك أنه يشعر ببعض الغيرة من فارس.. كان يسرق منال منه، يسرق قلبها وشعورها واهتمامها.. لم تعد منال موجهةً بالكامل له كما كانت سابقا، صار في حياتها شخص آخر يشاركه فيها. تنهد.. ليس من حقه اعتبارها ملكيةً كي يفترض أن فارس يشاركه، يعرف هذا.. لكنه يعتبرها له، أكثر من عشر سنين مرت وهي له، وستظل له.
بالنسبة لفارس، كان أيضا يحمل شعورا مختلطا تجاهه.. كان يحبه، يحبه بغرابة، مستعدا للتضحية بأي شيء كي يراه سعيدا.. ولكنه يعرف في الوقت ذاته أن قربه منه هو النقيض تماما لسعادته.. ولهذا، ببساطة، ضحى بعلاقته بابنه من أجل سعادته..
تحرك ببطء، خلع ثيابه تاركا الشورت، ارتدى تيشيرت ثم استلقى بتعب على يسار فارس، محاولا ألا يصدر أي حركة تزعجهما..
صار فارس نائما بين الاثنين.. حدق يوسف في السقف طويلا غارقا في أفكاره قبل أن ينام أخيرا..

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن