٥٦

1.6K 60 8
                                    

أغلقت الكتاب ببعض القوة ورفعت عينيها عليه بحدة.. لقد عجزت عن فهم حرف واحد لشعورها  بتحديقه بها وتأمله الطويل.
رفع حاجبيه متسائلا حين وجهت له تلك النظرة، إنه يجلس مسترخيا ويراقب كل حركة من حركاتها باستمتاع.
لم تتكلم وظلت ترمقه منتظرةً منه أن يفهم انزعاجها دون أن تضطر لاستهلاك طاقتها بأي تفاعل معه.
إنه يعرف مقصدها ولكنه لم يتحرك ولم يرمش حتى، إنه يريد استفزازها كي تتكلم معه، لقد سئم الوحدة، وهو يشتاق لوجودها.
لاحظت عينه العالقة على عضدها الذي كان مزرقا بسبب ضغطه الشديد عليه يوم جريمته الأخيرة.. تنهدت بتعب وخفضت عينيها باستسلام عنه ورمت الكتاب في السلة بحركة عنيفة بعض الشيء حين أدركت أن الاسترخاء حلمٌ بعيد.. دلكت كتفها الذي كان يؤلمها..
لاحظ هذه الحركة التي تكررت منها كثيرا في الفترة الأخيرة، بالتحديد منذ بدأت العمل. استنتج أنه ألم عضلات بسبب جلوسها الطويل إلى الحاسب.
قال بصوت هادئ: أنتِ بحاجة لتدليك.
أبعدت يدها عن كتفها.. إنها بالفعل تتألم وتحس بشد مزعج في عضلاتها، ولكنها لم ترد أن تلفت نظره لذلك. ليست تريد منحه أعذارا كي يلمسها.
كما توقعت، تحرك من مكانه ببطء وجلس بجانبها.. ابتعدت عنه بضع سنتيمترات.. اضطرت للكلام أخيرا.. قالت بانزعاج: قلتَ أنك لن تلمسني!
قال بنبرة هادئة: استرخِ يا منال. لن أفعل شيئا.. ألاحظ ألم ظهرك منذ مدة طويلة، سأدلكه فحسب.
تراجعت أكثر مبتعدة عنه وقالت بتوتر: لا أريد. ابتعد عني.
مالت ملامحه للبرود.. بدا واضحا لها أنه يكتم غضبه..: اهدئي. لن آكلكِ. لا حاجة لهذه الدفاعية!
سكتت مشدوهة، إنه يغضب منها وكأن دفاعيتها غير مبررة.
تابع هو محاولا تليين نبرته: قلت لكِ، اتركينا نعيش ليلة صلحٍ واحدة. إننا بحاجة لها!
قالت بتعب محاولة إقناعه بالمنطق: يوسف، يسهل عليك أن تعيش ليلة صلح، فأنت لم تخاصمني أصلا، أنا لم أؤذك. في المقابل، أنا من لدي مشكلة معك، أنا من يستحيل علي إقامة هذا الصلح. هل تفهمني؟
مرر كفه المبللة على ذقنه وارتجف فكه بحركة عصبية.. إن صبره ينفد. تسارعت أنفاسه بعض الشيء قبل أن يقول: إنني أريدكِ. وبحاجة لك. ليس جسديا، ليس الآن بعد أن وعدتك، لكنني أريدك معنويا، أريد وجودكِ. -أغمض عينيه وبدا وكأنه يبذل جهدا كي يسيطر على نفسه- تعرفين كم أواجه صعوبة في منع نفسي عن امتلاككِ. صحيح؟ لقد علمتكِ التجربة.

بدأت تقلق وتخاف.. فإما أن تمنح نفسها له، وتوافق على هذا الصلح الخيالي، أو أن تخاطر باستثارة أعصابه.. أحست بصدرها يضيق لقلة خياراتها..
قالت بيأس: ماذا إذن؟ ماذا تريدني أن أفعل؟
أجاب بهدوء: اتركيني أدلّك كتفيك، أحتضنكِ، تكلمي معي حتى أشبع منكِ، احتضنيني ونامي.
ضغطت بكفيها على رأسها بتعب.. ما هذا الجنون ولماذا عليها أن تعيش في وسطه؟
صرخت بعصبية وقد فقدت أعصابها: حتى تشبع مني؟ ماذا أنا يا يوسف؟ هل أنا لست إلا شهوة ستستهلكها حتى تنقضي؟ ماهذه الأنانية الفظيعة؟ ماهذا المرض؟ هل يعمل عقلك اللعين قبل أن تنطق؟ أ-
أحس يوسف بالصراخ يستثير أعصابه، إنه لا يحتمل الصوت العالي، ولا يحتمل هستيريتها هذه التي يعرف أنها بسببه. ولا يحتمل كلماتها التي تؤذيه وتجبره على مواجهة حقيقته. قال له عقله مباشرة أن عليه أن يسكتها.
اتسعت عيناها بصدمة حين بغضب قبض على رأسها ودفعه بخشونة تحت الماء قاطعا كلامها.. لم يكن في وعيه، أرادها أن تصمت فحسب!
ضغط رأسها أكثر وأكثر تحت الماء وهو يشد قبضته على رقبتها..
أغمضت عينيها تحت الماء وسكنت دون حركة وهي تسند ذراعها على حافة المغطس، كانت أنفاسها مقطوعة بسبب المفاجأة وكانت توشك أن تختنق، ولكنها لم تتحرك.
بعد ثوان لاحظ كفها التي كانت تشد على الحافة بقوة، عرف أنها تفقد أنفاسها، أفلتها.
رفعت رأسها وسحبت شهيقا عميقا وكأنها عادت من الموت.. سعلت بشدة عدة مرات حتى استعادت أنفاسها، مسحت على وجهها مبعدة الماء، رفعت عينيها عليه. بلع ريقه حين رأى عينيها، كانت نظرةً حادة حاقدة أخافته.
قالت من بين أسنانها ببطء: قلتَ. أنك. لن. تلمسني. أيها الملعون.
تمالك نفسه وقال ببرود: من الواضح أنني عنيت اللمسات الجنسية.
اتسعت عيناها باستنكار.. وقفت وخرجت من المغطس بخطوات سريعة وهي تغمغم: أيها القذر اللعين الأناني!
لم يعد يسمع شتائمها التي استمرت ترددها وهي تمشي بسرعة، لم يعرف هدفها، لم تكن تتحرك إلى خارج الحمام.
مشت عارية بجسم يقطر منه الماء، ويرتجف غضبا، كانت تتلفت حولها وكأنها تبحث عن شيء، ظل في مكانه وراقبها بصبر.
شهق بصدمة حين أخذت شمعة في قالب زجاجي ورمتها على المرآة. تناثر زجاج المرآة على المنضدة التي كانت تحتها، سحبت أكبر قطعة رأتها أمامها وشدت عليها في كفها غير مهتمة باحتكاك الزجاج بلحمها، ثم بخطوات سريعة التفتت نحوه وسارت باتجاهه.
كان وجهها غريبا، وجنتاها حمراوان وبدت خارج وعيها لفرط الغضب والانفعال، قفزت داخل المغطس من جديد وقبل أن يعي شيئا كانت ترفع يدها وتغرس الزجاجة الحادة في كتفه.
كل هذا حصل خلال ثوانٍ قبل أن يفهم أو يبرمج شيئا.
انتفض معتدلا في جلسته وتأوه بألم، لم يكن الجرح عميقا، لم تكتف، رفعت الزجاجة من جديد وهوت بها على ذراعه بغضب وهي ترتجف بشدة.
عض على شفته وتقاطر الدم من جرحيه، لم تكن جروحا عميقة ولكنها ليست سطحية تماما، لم تستطع استعمال كامل قوتها لفرط ارتجافها وانفعالها.. تراجع خارجا من المغطس، حدقت به بحقد وبغض لثوان قبل أن تتبعه مسرعة، أمسك معصمها وصرخ: اهدئي! منال! توقفي!
قاومته بهستيرية وصرخت: أفلتني!! أفلتني أيها السافل! حالا!
أحس بقلق شديد لحالتها وهو يرى الزجاجة في كفها تنغرس أكثر والدم يتقاطر منها، ومنال غير عابئة بها وهي تضغط عليها أكثر كلما غضبت أكثر. نسي ألمه وشد يده على معصمها متعمدا إيلامها، صرخ بصرامة: قلت اهدئي!!!
عضت على شفتها وتوقفت عن المقاومة، رمقته بكره وهي تتنفس بصوت مسموع..: هل ستكسره من جديد؟ أيها الوضيع؟
خفف قبضته عليها ولكنه لم يفلتها، فتح كفها ببطء، اتسعت عيناها حين رأت بركة الدم والجروح عليها.. إنها لم تشعر بشيء.. ما إن رأتها بدأت تستوعب الألم، سحب الزجاجة ببطء من يدها ورماها مع بقية الزجاج.. أفلت يدها وتحرك خطوتين، فتح أحد الأدراج وأخرج المقص، ناولها إياه وقال بجدية: يمكنكِ إيذائي دون أن تؤذي نفسكِ.
جزت على أسنانها، إنها تكره تصرفاته البطولية هذه أكثر مما تكره تصرفاته الوضيعة.
رأى الغضب يظهر أكثر وأكثر على وجهها، سحبت المقص منه بحركة سريعة فاجأته، أمسكته بقوة ودون تردد هوت به على جرح كتفه الأول في الموضع ذاته.
لم يستطع أن يكتم صرخته، صرخ وتراجع عدة خطوات وهو يرى المقص عالقا في داخل لحمه بعد أن غاص عميقا.. تفجر الدم منه، أنّ وهو يحاول تثبيت المقص كي لا يتحرك فيؤلمه أكثر..
اتسعت عيناه بصدمة حين تقدمت منال منه من جديد وأمسكت المقص بخشونة وبدأت تبرمه داخل الجرح، ارتطم يوسف بالجدار فالتصقت به أكثر وحركت المقص بعنف من جديد.
لم يكن يوسف يقاومها، كان يتألم ويتأوه ولكنه لم يحاول إبعادها..
ابتعدت عنه خطوتين وهي تحاول التقاط أنفاسها فانهار جالسا على الأرض وهو يضغط على جرحه بألم محاولا إيقاف النزيف الذي لم يتوقف رغم أن المقص لازال في داخله..
سحبت نفسا عميقا وتأملت الحال..
هي تقف عارية، كفها تقطر دما، وعلى بقية جسدها دماء يوسف التي تطايرت منه.
يوسف على الأرض، عاريا هو الآخر،  يسند رأسه على الجدار ويئن محاولا ألا يفقده الألم وعيه، مغطى بالعرق والدم الذي ظل يكثر ويزيد.
الماء في المغطس صار معكرا مخلوطا بلون أحمر، والزجاج متناثر على الطاولة أمام المرآة، وسطه الزجاجة التي استعملتها هي في هجومها الأول والتي صارت حمراء ونثرت الدماء حولها.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن