٣٥

1.8K 49 5
                                    

خرج من الحمام صباحا وهو يجفف وجهه، قطب حاجبيه حين رآها بملابس رسمية.. كانت مشغولة بتوضيب بعض الاغراض.. قال بهدوء: صباح الخير.
لم تجبه ولم تلتفت حتى. سحب نفسا محاولا ان يصبر.. سأل مستغربا ملابسها: إلى أين؟
هذه المرة اجابت، مجددا دون ان تلتفت، وبصوت هادئ: سأبدأ العمل اليوم.
سكت لحظات قبل أن يتذكر.. صحيح.. لقد نسي مسألة العمل وسط كل هذه الفوضى..
تقدم منها.. سحب الاغراض من يدها وقال بجدية: انظري الي.
ظلت جامدة للحظات قبل ان ترفع عينيها الباردتين الى عينيه.. لاحظ كدمة على وجنتها، انها اثر صفعته الاخيرة.. اذن فهي لم تنه روتين الصباح على مايبدو، والذي يتضمن تغطيتها لأي آثار سببها لها..
: سأقول شيئا لمرة واحدة. لا أريد تكراره ولا إعادة الحديث فيه.
كان صوته جافا وصارما.. قالت بهدوء: انا اعرف ماذا تريد، وسأفعله. اختصر علي الوقت والغثيان، ولا تقله.
قطب حاجبيه.. اقترب منها اكثر ملتصقا بها، ركز عينيه في عينيها وقال: فعلا؟ ماذا أريد يا منال؟
كان منزعجا منها.. من قولها بالأمس أنه سيفقدها. ومن برودها معه، ومن وضعهما كله.
انه يعرف انه ليس من المنطقي ان يغضب من برودها الطبيعي والمتوقع، ولكنه لم يكن في حالة تسمح له بالتفكير المتزن. انه يريد ان تسير الامور حسب مزاجه فقط. يدرك ان هذا طفولي، ولا يهتم.
كانت هي تدرك هذا كله وتفهمه.. هي تعرفه اكثر من نفسه.. تعرف انه سيتصرف بطريقة بغيضة اكثر كلما اخطأ اكثر، هربا من مواجهة نفسه.
ثبتت عينيها في عينيه، اقتربت منه اكثر وعقدت كفيها خلف عنقه، قربت وجهها من وجهه حتى اوشكا ان يتلامسا.. اضطرب وبلع ريقه.. تجمد ولم يتحرك.. قالت بصوت مخملي: احذري في تعاملاتك.. لا تتكلمي مع الذكور الا للضرورة القصوى.. لن تكون لكِ علاقات معهم وستعزلين نفسكِ تماما. وإلا -قالت مقتبسة عبارته الشهيرة- سأقطع لسانكِ اللعين. -ابتسمت ببرود ولعقت شفته بحركة ناعمة- صحيح؟
احست بكفيه على خصرها.. اغمض عينيه وقبل شفتيها قبلة طويلة رقيقة.. ابتعد بعدها عنها مليمترات قليلة: صحيح.
حاولت سحب جسدها من يديه.. ولكنه شدها من جديد.. قبل جبينها بنعومة ثم ابتعد..
قالت وهي تعود الى عملها: سيكون عليك ان تبقى مع فارس في المنزل بعد المدرسة حتى اعود.
اجاب وهو يسحب ملابسه من الدولاب: لابأس.
ساد الصمت لحظات.. كان يعي ان عليه ان يمنحها مساحةً، وان يتركها وشأنها كي تتعافى مما فعل. كان عليه ان يبتعد عنها قدر المستطاع.
قال بهدوء: اسمعيني..
نظرت اليه.. تضايق حين رآها.. بعيدا عن الكدمة التي اثارت اضطرابه، واثارته جنسيا في نفس الوقت، كانت عيناها شديدتي البرود. وكأنهما لا حياة فيهما..
سحب نفسا وقال: سابتعد هذه الايام. لن ازعجكِ، لن اجبرك على شيء. ولكن بشرط.. اريدكِ ان تعودي الى الطبيب هذا الاسبوع.
ابعدت عينيها عنه وقالت ببرود: لا.
: لماذا؟
: لست بحاجة اليه.. اذهب انت ان اردت.
خلع تيشيرته ورماه على السرير، وقال وهو يرتدي قميص بدلته: هذه نكتة ظريفة. لماذا قد اذهب يا منال؟ لقد ثبتت صحة رأيك. لا امل مني. ولن اتغير. انا لن اذهب مجددا.
قطبت حاجبيها.. ابتسمت بسخرية: اذن هذا ما احتاجه الامر كي تتخلى عن وعودك بالتغير؟ لقد كنت واثقا بنفسك كثيرا حين قلت انك ستتغير ذلك اليوم في السيارة.. صحيح انك كسرت اصبعي بعدها بساعات، ولكنك مع ذلك كنت في قمة الثقة. من هذا الموقف نتعلم ان كلامك لامعنى ولا قيمة له، مهما كنت جادا في قوله.
صر على اسنانه منزعجا، قال وهو يزرر قميصه..: انا لا ارى المعنى من كلامكِ. انتِ تتفقين اني لن اتغير، ومع ذلك تحثينني على الذهاب للطبيب. ماهدفكِ؟
زفرت..: انت تصبح اقل جنونا حين تلتزم بمواعيدك. هذا لايعني انك تتغير، متى ما قل تأثير الموعد، او متى ماجاء محفز قوي، انت تجن مجددا. ولكن ذهابك يحد من هذا الجنون. ولهذا عليك ان تذهب. انني لا اريد ان اتحمل النسخة الكاملة من عقلك المضطرب.
سحب بنطاله من الدولاب..: حسنا اذن، سأذهب اذا ذهبتِ معي.
: لن افعل. ان العلاج كزوج لا معنى له بالنسبة لنا.. اننا لسنا زوجا. ان علاقتنا لا اسم لها.
: انـ...
قاطعته، محدقة في عينيه: هل تذكر يا يوسف.. بعد ولادة فارس بشهور قليلة، حين كنت احاول اقناعك بابقائه معنا.. وهاجمتني بوحشية.. هل تذكر ماذا قلتُ لك؟
قطب حاجبيه، لمعت في ذهنه الذكرى.. وعبارتها.. "يوما ما ستطلب مني ان اسامحك، ووقتها انا لن افعل".
قال بحدة: انا لا اعرف ماعلاقة هذا بحديثنا.
: علاقته واضحة. انني لا انسى، يايوسف، اي شيء تفعله لي. انني احفظ كل شعور اجبرتني على معايشته. وهذا ما يمنعني عن الذهاب معك الى الطبيب. ان كل هذه الاحداث تجعلك عدوي، وهذه العداوة تعني استحالة نفع العلاج.
كان قد فرغ من ارتداء ملابسه.. اقترب منها مقلصا المسافة بينهما، وقف امامها مباشرة.. قال بهدوء مثبتا عينيه في عينيها: ان حياتنا معا بتعقيداتها تمنع العداوة المجردة. انكِ، ولو بطريقة ملتوية وغير صحية، جانب بعيدٌ منك، يعرف انك تنتمين لي. لقد علمتكِ هذا وانشأتكِ عليه. لقد كبرتِ على هذا الاساس. في نقطة معينة في صغركِ، لقد احببتِني. لقد احببتِ المخلوق المتوحش الذي يؤذيك ويعكر حياتك ويتغذى على المكِ، لانكِ كنت وحيدة، ولانني كنت الخيار الوحيد. ان هذا الحب لم يختفِ، ولن يفعل. انني في داخلكِ يا منال، كسرطان، كمخلب مغروس في اعماقكِ، انني لست عدوكِ فقط. انني عدوك وشيء آخر، شيء لا اسم له، شيء مشوه، ولكنه في الوقت نفسه رقيق وحنون ومحبوب. وكما انتِ لن تنسي كرهك لي، فانك لن تنسي هذا الشعور.
كانت ترتجف.. وعلى وجهها اضطراب هائل.. اغمضت عينيها.. تركت الاغراض التي كانت بيدها.. بلعت ريقها وتحركت بسرعة مغادرة الغرفة مغلقة الباب خلفها.. وقفت تتنفس بحدة في الجهة الاخرى من الباب.. هذا اللعين القذر.. هي تعرف انه محق. ان هذا الجانب منها يظهر في اوقات ضعفها وانهيارها، الجانب الذي يتوق له. عضت على شفتها وهي تحس ببغض هائل لنفسها وباشمئزاز.. كيف لها ان تعترف بوجود هذا المرض في داخلها فيما هي تكرهه وتمقته وتزدريه؟ ان هذه المعضلة تنهشها من الداخل وتؤرقها..
سحبت نفسا عميقا، ذهبت الى دورة المياه متعجلة.. لم تكن تريد لفارس ان يرى وجهها قبل ان تغطي الكدمة.. غسلت وجهها محاولة ان تهدأ، اخفت وبمهارة كدمتها.. لقد اصبحت هذه العادة كشرب الماء في حياتها منذ ان كانت طفلة.
ارتجفت مجددا.. كيف لها ان تملك نقطة ضعف تجاه هذا الذي عودها على وضع اطنان من المكياج كل يوم كي تخفي جنونه منذ اول نشأتها وحتى هذا اليوم؟ كيف يكون الانسان بهذا الاختلال؟
سمحت لنفسها ببضع دقائق هدأت خلالها ثم خرجت.. جهزت الفطور، جاء فارس خلال ذلك وساعدها، بعد دقائق كان يوسف يأتي هو الآخر ليشارك في هذا التجهيز..
شرحت لفارس فيما اكلوا عن طبيعة يومها الجديدة..: وهكذا، لن اكون موجودة حين تعود من المدرسة يافارس، ولكنني ساكون في المنزل بعدها بساعتين او ثلاثة فحسب.
قطب فارس حاجبيه قلقا، انه معتاد على استقبال امه له حين يعود..: هل سأبقى وحدي؟
: بالطبع لا. سيبقى معك بابا حتى اعود.
تنهد متضايقا: ولكنني.. يجب ان تكوني في البيت حين آتي..
ابتسمت: انت تتدلل من جديد..
غرقت عيناه بالدموع سريعا: كلا.. انا فقط.. انا اشعر بالخوف حين لا تكونين حولي.
مسحت دموعه برقة..: يمكنك الاتصال بي متى شئت. سيكون الامر مريحا، وستعتاد. لا تخش شيئا.
تنهد بحزن واضح ولم يعلق، وتابع تناول طعامه بلا شهية.. لاحظ يوسف ان منال هي الاخرى انزعجت من هذا الموقف، وفقدت الرغبة في الطعام، كما يثق انها فقدت الرغبة في العمل كذلك. لم يكن يستبعد ان تترك العمل وتتخلى عنه كي لا يحزن فارس..
بعد الطعام ودعت منال فارس بعناق محاولة مواساته.. وقبلت يوسف قبلة باردة مجاهدة كي تبدو طبيعية امام فارس.. ثم ذهبت الى عملها.. لم تكن قلقة بخصوص الوظيفة.. هي تثق بنفسها فيما يرتبط باختصاصها، وتثق انها تتقن مايتطلبه الامر. حيث كان التعلم مهربها دائما من كابوس حياتها، وكان الاجتهاد المفرط خيارها الوحيد. كما كانت تعرف ان هذه الوظيفة ضرورة لا اختيار. فبقاؤها في المنزل يعني تحولها للعبة يوسف الجنسية، وكيس ملاكمته من وقت لآخر. أي اصابتها بالجنون في اخر الامر، مما سينعكس على فارس، او سيضطرها للتخلي عنه. كان عليها ان تجد مهربا، وحياة اخرى تشبه الحياة الطبيعية، وكانت الوظيفة هي الخيار الوحيد.

ركب فارس مع ابيه في السيارة صامتا وكئيبا.. حرك يوسف السيارة بصمت كامل كعادته هو الآخر.. ثم كسر هذا الصمت بعد دقائق..: هل تعرف يا فارس..
قطب فارس حاجبيه والتفت لأبيه، حيث لم تكن هذه المحادثة متوقعة..
تابع يوسف: ان معظم وقت عمل ماما سيكون خلال وقت دراستك. ستتمكن ماما من فعل ماتحب وفي نفس الوقت ستقضي معظم يومها معك.. هذا شيء جيد. صحيح؟
اطرق فارس..: لا.
قطب يوسف حاجبيه: لماذا؟
سكت فارس.. لم يتعجب يوسف.. ليس من عادته ان يفضي له او يتكلم معه حتى.. فلماذا سيبدأ الآن؟
: اذا كنت تريد لأمك السعادة، سيكون عليك ان لاتقلقها عليك. عليك ان تعرف انك لن تفقدها مجددا.
تمتم فارس: اعرف.
لا يعرف يوسف لم كان يخوض هذه المحادثة.. اذا خُير بين عمل منال وبقائها في المنزل، لاشك انه سيختار اللاحقة. فلماذا كان يحاول تهيئة جو مريح لها فيما يخص عملها؟
ان عملها يهدد ملكيته لها.. ويجعلها عرضة لاكثر مايرعبه: ان تحمل المشاعر لرجل آخر. أو حتى ان يشغل دماغها رجل اخر لثلاث ثوان.
بعد ان اوصل فارس اتصل بها.. فاجأها اتصاله، كانت تركن سيارتها امام الشركة حين رن هاتفها.. زفرت واجابت بامتعاض: نعم؟
وصلها صوته جافا: سأقول لكِ شيئا..
اسندت رأسها خلفها على الكرسي متعبة بانتظار ان يتكلم.. تابع بصوت منذر بالشر: تذكري جيدا كلامنا هذا الصباح يا منال. انني لم اعطه مايكفي من الجدية. تذكري انني اراقبكِ دائما، انني موجود في كل مكان. لاتكوني ولا حتى ودودة مع رجل واحد. هل تفهمين ما اقول؟ لا تخاطري بنفسكِ ولاتختبري جديتي.. انتِ تعرفينني.
عضت على شفتها.. لماذا كل هذا الهراء؟ وكأنها تتوق للحديث مع الرجال؟ انها لا تطيقهم. لا تطيقه ولا تطيق غيره.
قالت بشرود: هل تذكر حمزة؟
قطب حاجبيه: نعم؟؟
زفرت: حمزة، الولد الذي كان معجبا بي في الثانوية.
سكت يوسف لحظات ثم قال بصوت هادئ..: نعم. اذكر ذلك اللعين.
: هل تذكر ماذا حصل في اليوم الذي رفضتُه فيه؟
اجاب ببرود: بالطبع انا اذكر. ويسعدني انك تتذكرين. ابقِ هذه الصورة في ذاكرتك كي لا تجرؤي على تكرار اخطائكِ.
صرت على اسنانها: يالك من بجيح لعين عديم الاحساس.
هدأ صوته: بالتوفيق يا منال. انتبهي لنفسكِ. احبكِ.
قال هذا واغلق مباشرة. رمت الهاتف بيد ترتجف من الغضب في حقيبتها واستعادت ذاكرتها ذلك اليوم..

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن