٢٣

2.1K 54 2
                                    

نعم.. لقد طلبت منه أن لا يتركها.. لايمكنها أن تنسى ذلك..
=
كان يمسك في يده ورقة علاماتها المدرسية.. لقد مضت عدة سنين على عيشهما معا.. اعتادا على بعضهما نسبيا.. لم يحصل بينهما شيء جنسي بعد.. وحياتهما صارت صامتة وهادئة.. هو يرعاها ويشرف على أمورها وهي كانت تطيع باستسلام.. اعتادا على النمط.. ومع ذلك، كان يجد كل فترة سببا يؤذيها قولا وفعلا لأجله..
حدق في الورقة بحاجبين مقطبين.. كانت علاماتها في غاية السوء.. انكمشت ناظرة إلى ملامحه من الكنبة المقابلة.. انتفضت لا شعوريا حين رفع عينيه عليها.. سحب كرسيا مقاربا لمستواه ووضعه أمامه..
همست بتردد: امم.. يوسف.. يمكنني أن أشرح..
لم تتحرك نظراته الباردة عنها.. أشار للكرسي..
بلعت ريقها وقالت بسرعة: اسمعني أولا.. إنني..
سكتت حين احتدت نظراته كثيرا ورفع حاجبيه هازا يده المشيرة للكرسي.. لم تكن تجرؤ على المخالفة.. شدت جسمها إليها ونهضت بتثاقل.. جلست أمامه وحدقت بالأرض وهي تعبث بأصابعها بتوتر شديد..
قال ببرود: سأعطيكِ خيارين.. إما أن تقولي عذركِ، ومقابل كل كلمة تقولينها صفعة.. أو أن تخرسي.. وسأفكر هل أعاقبكِ أم لا..
احتد تنفسها.. كالعادة.. إنه لا يترك الأمر يمر دون تسلية..
تمتمت: كنت تضغط علي وقتها..
رفع حاجبيه..: هذا قرارك إذا؟
رفعت عينيها عليه بخوف وضيق.. إنه لا يعطيها حق الكلام.. حق التعبير عن نفسها.. ومع ذلك، إنها ليست ناضجة كفاية لتعرف أنه حقها.. إنها خائفة.. خائفة وحسب..
شدت جسمها إليها وهمست: آسفة.. لا تضربنـ...
قطعت كلمتها بصفعة شديدة رمتها عن الكرسي أرضا.. أغمضت عينيها بشدة وحركت فكها بألم شديد وهي تنهض بصعوبة.. توقعت أن ينهض ليتابع عمله لكنه استرخى في جلسته، وضع ساقا فوق ساق وأشار للكرسي مجددا..
سحبت نفسا بصعوبة وهي ترتجف.. إنه يريدها أن تأتي بنفسها إلى عقابها.. كانت تعرف أن التردد والتراجع يزيد العقاب سوءا فقط.. نهضت وجلست أمامه منكمشة..
مرر يده على وجنتها.. انتفضت.. قال بهدوء: كم كلمة؟
بلعت ريقها.. دلك مكان الضربة وانتظر بصمت جوابها..: أ..أربعة..
هوت على وجهها الصفعة الثانية، طارت مرة أخرى إلى الأرض.. احتد تنفسها وأحست بوجنتها تحترق..
شدت جسمها وبقيت مكانها.. حدقت في الأرض لم تتحرك..
زفر..: تحركي..
عضت على شفتها.. غرقت عيونها بالدموع.. وقتها كان هذا شيئا شديد الندرة.. لم تكن تبكي أبدا مهما آذاها.. قطب حاجبيه وحدق بها.. تمتمت بصوت مخنوق: هل تكرهني لهذه الدرجة؟
سكت.. في الحقيقة، لم يكن دافعه الآن مما يفعل كرهه لها.. إنما كان يسعى لتحسين علاماتها.. ولم يكن يعرف وسيلة لذلك غير العقاب.. وفي نفس الوقت، كان يسعى لبعض المتعة عن طريق رؤيتها تتألم..
انزلقت دمعتان ثقيلتان إلى فخذيها.. ارتجفت..: لماذا تكرهني هكذا.. أنا.. لم أؤذك في شيء.. لقد عشنا معا سنين.. ألا يكفي كل هذا الوقت كي تتوقف عن كرهي؟
حك ذقنه بضيق.. كان يرى الألم بوضوح في عينيها ويسمعه في صوتها.. لم يعجبه ذلك.. لم يكن يكرهها.. ولم يرد أن تعتقد هي ذلك..
نهض من مكانه وقال بصوت هادئ: سنكمل عقابكِ لاحقا.. استريحي الآن..
مشى مبتعدا عنها.. التفت بصدمة حين أحس بيدها الباردة الصغيرة تقبض على كفه.. كانت تحدق به بعينين غارقتين فوق وجنتها المتورمة.. وكتفين مهتزين وقامة قصيرة ضعيفة.. حدق بها بعينين متسعتين.. أطرقت وهمست بصوت باكٍ: لا تتركني وحيدة.. أنا خائفة..
شعر بوخز في قلبه.. من النادر أن يشعر.. من النادر جدا.. لكنه هذه المرة.. أحس بشعور هائل تجاه هذه الطفلة الوحيدة.. لقد كانت ترجوه ألا يتركها رغم كل مافعله لها منذ لحظات.. رغم كرهها له، واعتقادها أنه يكرهها.. رغم أنها لا تضمن أن لا يؤذيها.. لقد قاومت خوفها، لأنها لم تعد تطيق الوحدة.. إنها تلك الوحدة التي قد تضحي بأي شيء للتخلص منها.. كان يعرفها جيدا.. جيدا..
سحب يده منها بخفة ثم التفت إليها.. تراجعت وانكمشت على نفسها بخوف.. انحنى وجلس شبه جلسة أمامها.. وضع عينيه في عينيها، وكفيه على وجنتيها وأجبرها على النظر إليه..
مسح دموعها بإبهاميه.. ارتجفت شفتها بشدة وتساقطت الدموع أكثر وأحنت وجهها باتجاه لمسته.. تنهد.. إنها طفلة.. بحاجة لأي شكل من الحنان والعاطفة..
قال بهدوء: ماذا تريدين أن أفعل؟
رمشت مبعدة الدموع عن وسط عينيها.. قالت بتردد محاولة التوقف عن البكاء: هل.. تسمح لي بالنوم بجانبك؟
رفع حاجبيه.. كان طلبا مضحكا ومبكيا في الوقت ذاته.. تنهد بتعب.. أبعد كفيه عنها ومسح على شعرها بتفكير.. قبل جبينها بخفة.. أحس بكفيها تشد على ملابسه التي تغطي صدره.. قال وهو يتابع مسحه على شعرها: اذهبي واغسلي وجهكِ واستعدي للنوم ثم تعالي.. -نهض- و.. -صارت نبرته أكثر جدية وجفاء- أنا لا أكرهكِ.. ولا يسمح لكِ بتقرير شعوري تجاهكِ مرة أخرى.. هل هذا واضح؟
كانت تنظر إليه بخوف مخلوط بتساؤل.. حين احتدت نظرته هزت رأسها بالإيجاب سريعا.. حينها تركها ذاهبا إلى غرفته.. مسحت دموعها واغتسلت وارتدت بيجامتها.. حين طرقت باب غرفته، حملها بخفة إلى السرير.. أسندها إلى صدره دون أن ينطق بكلمة.. أثقل النعاس جفنيها.. وفي وسطه تمتمت: يوسف..
: همم؟
: هل.. ستتركني كما تركني أمي وأبي..؟
تنهد.. قال بصوت هادئ: هل تريدين أن أفعل؟
شدت جسمها نحوه وكورت كفها على قميصه..: لا تتركني.. ليس لي غيرك في العالم..
لم ينطق.. قبل جبينها.. وظل يمسح على شعرها وظهرها حتى غفت..=

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن