٥٥

1.5K 53 6
                                    

سحبت كرسيا وجلست مقابله بتعابير باردة.. قال بصوت هادئ: شكرا لمجيئك.
رفعت حاجبيها: هل تسخر مني؟
: لا. لستُ أسخر.
تنهدت وسكبت لنفسها كأسا.. بدا لها أن يوسف هدأ بعض الشيء بعد جلوسها معه.. وشرد قليلا بكأسه ثم ميل نظره إلى طاولة حسام البعيدة..
قال بصوت يميل إلى الخفوت: أين العدل يا منال؟ حين يعيش هذان الشيطانان بهناء، فيما نعاني أنا وأنتِ كل يوم؟ أين المنطق في هذا؟
تأملته لحظات..: تسألني عن العدل يا يوسف؟ منذ متى كان العدل مفهوما حقيقيا موجودا في حياة الإنسان؟
بدا على وجهه الأسى.. تساءلت كم شرب حتى وصل لهذا المزاج. إنه لم يعد غاضبا وعدائيا، إنه حزين ومسالم.
كان يراقب انخراط أبيه وزوجته في الحديث، قال بهدوء شاردا وكأنه في عالم آخر: هل تعرفين؟ لقد تركت بيت أبي حين كنت مراهقا. هربت بعد أن حبستني تلك المرأة لأيام في غرفة مظلمة تكاد تكون بحجم جسمي. لم يكن معي مال، ولنكون أكثر دقة، لم يكن معي شيء غير ملابسي. لقد كنت حافي القدمين.

استمعت منال متعجبة.. ليس هذا الكلام عادة يوسف، إنه يكره الكلام عن نفسه وعن ماضيه.. وخلال معيشتهما الطويلة معا لم يحصل هذا إلا فيما ندر.
تابع يوسف بالنبرة ذاتها: لقد نمت في المباني المهجورة وعلى كراسي الحدائق وتحت الأنفاق. لقد أكلت من سلات القمامة. لاتظني أنني أبالغ. لقد عشت على بقايا اللحم العالقة في العظام التي يرميها الناس في مهملاتهم وكأنني كلب ضال. استبد بي الجوع والألم والمرض بعد شهور من تلك المعيشة وقررت أن أعود في لحظة ضعف. تسللت إلى الحديقة لأرى من خلال النافذة العائلة متحلّقين حول المائدة.. تلك المائدة العامرة بطعام يشبه قائمة مطعم كامل. كانوا دافئين، شبعين، سعداء وفي صحة كاملة. فيما كنت أنا قذرا، جائعا، مريضا وتعيسا.

سحب يوسف نفسا بعد مقالته تلك.. أبعد عينيه أخيرا عنهما ونظر إلى منال التي كانت تستمع له بصمت فيما شربت كأسها دون تعابير تذكر على وجهها.. قاطعته حين همّ بالمتابعة: لماذا تحكي لي هذا؟ أتظن أنني قد أتعاطف معك؟
ابتسم بسخرية ابتسامةً صغيرة: إنني لا أحكي لك إلا لأنني أثق أنكِ لن تتعاطفي معي.
سكتت.. تساءلت ماذا سيكون يوسف لو لم يعش حياة كهذه، لو عاش حياة تعيسة عادية، لاحياة خيالية التعاسة.
أكمل ومال صوته للرجاء: أخبريني إذن.. كيف يجب أن أتصرف الآن؟ إن هذه الحياة التي لاعدل فيها لن تقتص لي.. ماذا أفعل؟ إنه الشعور ذاته الذي شعرت به ذلك اليوم بينما راقبتهم من النافذة. أنا وحدي هنا، تعيس ومحطم ووحيد، وهما سعيدان منعّمان. كيف أتركهما يفوزان بهذا؟ كنتِ تريدينني أن أغادر.. كيف سأفعل؟ كيف أقبل أن شيئا لم يتغير منذ أن كان عمري خمس عشر عاما؟ إن علي أن آخذ حقي بنفسي لو أردت أن أعيش.

كان يوسف عاطفيا ومهزوزا.. لم تكن تعرف فعلا كيف تتلاعب بمزاجه هذا كما تعرف بقية أمزجته.. وضعت كوبها على الطاولة ومررت أصابعها على حوافه بتفكير وهي تتأمل يوسف الذي بدا نافد الصبر بانتظار إجابتها..
قالت محاولةً أن تكون منطقية: إن نقص العدالة في مجرى الأحداث لا يعني أن تعلَق وسطها. إن سعادة هؤلاء الناس لا تعني تعاستك. إنك لست محطما لأنهم سعداء، بل إنك محطم لأنك عالقٌ في ماضيك معهم. إنك وإن تحررت منهم جسديا لازلت محبوسا على الصعيد الفكري. ولهذا تخلص من خيالات الانتقام الطفولية هذه، ليس هناك شيء يمكنك فعله.
قال بعصبية: يمكنني. يمكنني أن أسلبهم مالهم، أو أن أ-
قاطعته بصوت ساخر: هل تعي لأي درجة أنت تشبه أحمد الآن؟
اتسعت عينا يوسف بصدمة وسكت.. إنه بالفعل يتكلم وكأنه أحمد قبل عشرين سنة. وكأنه سيتبع نفس السيناريو ويسير على نفس الخطوات.
جرع المتبقي في كوبه بيدٍ مهزوزة ولم يعلق.. قالت منال مجهدة: لنعد. أنت لا تفكر بشكل سليم.
احتدت نبرته: لن نعود. ليس بعد.
احتدت هي الأخرى: ماذا ستفعل؟ أنت لم تفعل شيئا لتنتقم خلال عشرين عاما وستنتقم عشيةَ نهاية الأسبوع في صالة مطعم؟
قطب حاجبيه: هل تظنين فعلا أنني لم أفعل شيئا؟ لقد حاولت. في تلك الليلة التي رأيتهم بها لقد أشعلت حريقا في الحديقة. لقد اصطادني الحارس بالطبع. ولكنني فعلت. وخلال السنين اللاحقة، جربت أشياء عدة، ولم أنجح. أما حين كبرت، -تردد قليلا- لقد انشغلت بانتقامي الثاني.
ابتسمت بسخرية.. انتقامه الثاني، أي هي..: جيد. على الأقل لقد تكلل أحد انتقاميك بالنجاح.
امتعض وبدا على وجهه الضيق.. فلم يكن هذا مايعنيه. فمنال تحولت من مشروع انتقام إلى أهم شيء في حياته خلال مدة قصيرة من عيشها معه.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن