١٣٤

802 57 8
                                    

رفعت منال هاتفها في سيارة الأجرة مهاتفة ابتسام.. وصلها الرد بسرعة كالعادة.. كانت ابتسام حريصة للغاية على التجاوب مع أي تواصل يصدر عن منال، لأنها لم تكن تحب أن تكون هي المبادرة معها خشيةً من إزعاجها.. كانت ترى وتفهم أن منال تهتم بخصوصيتها كثيرا ولا تحب أن يخترقها أو يخل بها أحد، ولذلك، كانت تنتهز الفرص والمبادرات التي تصدر عن منال كي تطمئن على حالها..
: أهلا وسهلا منال، كيف حالكِ؟
سحبت منال نفسا محاولة أن تجعل صوتها ثابتا: أهلا بكِ.. أنا بخير.. كنتُ أريد أن أمرّكِ، ولكنني أخشى أن الوقت غير مناسب.. لابد أنكِ رجعتِ للتو من العمل.. و.. لا أعرف.. هل يناسبكِ الوقت؟
سكتت ابتسام لحظات، كان هذا غريبا، فمنال كانت ملتزمة بزيارتهم مرة كل أسبوع في موعد محدد، لم يسبق لها أن جاءت فجأة بهذا الشكل.. قالت بجدية: تعرفين أن باب هذا البيت مفتوح لكِ دائما يا منال.. في أي وقت كان.
تألمت منال حين سمعت الحرص في صوت ابتسام.. لم تكن تعرف لماذا أرادت زيارتها.. ولكنها كانت تحس بالوحدة، وبالحاجة الماسة للكلام مع أي شخص تثق به. مع ابتسام تحديدا، لأنها كانت تمنحها راحة غريبة لا تحس بها مع أحد آخر.
: شكرا لكِ.. آمل أنني لا أثقل عليك.
زفرت ابتسام: منال، أرجوك توقفي عن قول هذه الأشياء لي، إنها فعلا تزعجني وتؤلمني.. ظننتُ أن علاقتنا صارت أقوى من هذا.
: أعتذر.. بلى.. معكِ حق..
: جيّد، سأراكِ قريبا إذن!

أغلقت منال الهاتف وأرخت ظهرها للوراء وهي تتأمل المدينة بشرود.. المباني العالية والشوارع المزدحمة كانت تمرّ وتمضي بسرعة مع سرعة السيارة.. أحست باكتئاب شديد.. كانت حياتُها تمضي بنفس السرعة.. كانت تطير من بين يديها دون معنى ودون هدف.. ويوسف، العمود الذي كان يحافظ على حياتها متزنة وقائمة، ليس في الواقع إلا عمودا من الملح، تحطّمه لمسة واحدة.
مررت كفها في شعرها بتعب وهي تفكر.. هل كانت غبية حين قررت أن تعتمد على يوسف وتثق به؟ إنها تعرفه جيدا، ولم تكن تتوقع منه أن يسيطر على انفعالاته أو يتصرف بلطف ولباقة في شجاراتهما.. يوسف عنيف، وسيظل عنيفا دائما، إن لم يكن عنفه عن طريق يده فسيكون عن طريق تعامله ولسانه، كانت هي تعرف هذا وصارت تقبله كمسلّمة لا خلاص منها.
في الوقت نفسه، ما إن تبتعد عنه، تحس مباشرة بالوحدة والضياع.. شدّت على أسنانها وفكّرت، كم تكره هذا، كم تكره اعتماديّتها عليه.. أدركت أنه فعلا محق، هي لا تعرف كيف تعيش بدونه، إنها مهارة لم تتعلمها ولا تمتلكها.
أحست بأنها تفتقد نفسها القديمة التي كانت قادرة على صدّه وإبعاده وإيذائه، نفسُها هذه كانت تظهر من وقت لآخر، حين تسترجع طبيعتها، ولكن، حتى بعد أن تثور وتغضب عليه، كانت تجد نفسها بحاجته من جديد.. أحست أنها طير عالق في قفص، أو فأر علقت قدمه في مصيَدة..

شكرت السائق ونزلت من السيارة متجهة إلى بيت ابتسام.. رنّت الجرس لتفتح لها داليا بوجه مشرق: منال! أهلا بكِ..
ابتسمت منال وعانقتها بمودّة.. داليا هي الأخرى صارت تعاملها بمودة كبيرة، وكانتا تقضيان معا وقتا مطوّلا في كل زيارة أسبوعية.. كان التغيير في مشاعر داليا تجاه منال عجيبا وجذريا، ولكنه كان منطقيا.. لقد بدأ بسبب صدمة داليا من فقد أبيها، ولكنه بالتدريج صار قبولا حقيقيا حين عرفت داليا منال عن قرب وفهمت شخصيتها، التي كانت بسهولة تجعل الطرف الآخر يحس بالراحة والاحتواء.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن