٦١

1.7K 52 2
                                    

دخل يوسف الصالة وهو يجفف وجهه بمنشفة صغيرة.. كانت منال هناك بانتظاره تلاعب بندق لأول مرة منذ جاء. التفت بندق عنها فور سماعه حركة يوسف وركض نحوه وبدأ يدور حول ساقيه بتحبب..
رفعت منال عينيها على يوسف الذي لازال يطبطب بالمنشفة على وجهه بنعومة.. تنهدت بسخرية.. هاهو يوسف رغم كل الظروف المعقدة المحيطة بالموقف يقضي نصف ساعة في تجفيف وجهه، لطالما كان هكذا، حريصا حرصا هوسيا على كل مايخص جسمه ومظهره، كما حرص على تدليل نفسه كذلك، فمنشفته مثلا مصنوعة من قماش استثنائي غالي الثمن وبالغ النعومة.
عاداته هذه انتقلت لها كذلك بعد معيشتها معه، فهي في نهاية الأمر انتقلت من اعتنائها بنفسها عناية طبيعية إلى ممارسة طقوس معقدة مثله، وإن كانت لاتزال أكثر طبيعية منه، فالأمر بالنسبة له يميل لكونه وسواسا قهريا، لا مجرد عادة.

وضع منشفته جانبا ولاعب بندق قبل أن يجلس مقابلها.. بدا لها هادئا وفي مزاج عادي، لا في مزاج شجار. ويبدو أنه نجح في انتزاع الرغبة الجنسية من رأسه وعاد إلى تركيزه.
قال مبتسما: ما رأيكِ ببندق؟ أليس ظريفا؟
مررت يدها في شعرها بعصبية، لماذا يبتسم؟ وهل وضعهما البائس يستدعي هذا الاسترخاء؟
قالت بنفاد صبر: ماذا تريد مني يا يوسف؟
اعتدل في جلسته..: أنتِ مستعجلة.. حسنا. -صارت ملامحه جادة- هناك أكثر من موضوع أريد أن نتكلم فيه. سأبدأ بالأقل أهمية.
قطع كلامه وفتح درج المنضدة بجانبه، أخرج علبة سجائر وولاعة. نهض وأخذ بندق إلى غرفة أخرى كي لا يتنفس الدخان، شغّل جهاز تنقية الهواء ثم عاد. قطبت حاجبيها بامتعاض حين أشعل سيجارة، ثم فوجئت حين رمى على كنبتها بجانبها العلبة والولاعة.. قال وهو يسحب منها نفسًا: كي نهدأ.
تذكرت تهديده ذلك اليوم التعيس، حين قال أنه سيكسر أصابعها لو دخنت من جديد. ابتسمت بسخرية. إذن لامانع عنده أن تتضرر بسبب الدخان طالما سمح هو بهذا الضرر؟ الفكرة بالتالي من منعها ليس كي يحافظ على صحتها، وإنما كي يثبت لها أن جسدها ملك له، فهو يقرر كيف يعامله، وهو يتحكم بضرره ومنفعته.

سحبت سيجارة غير مهتمة بتقلبات موقفه، رغم انزعاجها من اضطرارها لترك الدخان حين يأمر، ولاستغلالها سماحه لها كي تدخن، كان ذلك موقفا ضعيفا، لكنها أرادت فعلا أن تهدأ.
بعد لحظات صمت قال بهدوء: حسنا، كنت أفكر، إن عملي، واستثماري، هو ببساطة مصدر قوت عائلتنا. وهو مصدر معيشة فارس حين يكبر، وحين يعتمد على نفسه، سواء كنا حوله أو بعد أن نموت.
قطبت حاجبيها عاجزة عن استنتاج الهدف من ذكره هذه الحقائق المعروفة.. تابع: ولهذا من المنطقي أن نعمل معا على الحفاظ على هذا المصدر. أريدك أن تعملي معي، بدلا من وظيفتكِ الحالية. كوني صاحبة المال بدلا من مجرد موظفة. ما رأيكِ؟
حدقت به بنظرة غبية للحظات قبل أن تضحك نصف ضحكة..: هل جننت؟ ماذا تحاول أن تفعل؟ هل هذا لأنني خرجت مع زملاء عملي ذلك اليوم؟
مرر إبهام كفه الممسكة بالسيجارة على جبينه بعصبية.. قال بنبرة حادة: يالها من شجاعة، أن تتكلمي عن هذا الموضوع بنفسك بدلا من أن تشكري حظك ألف مرة أنني تجاهلته! و، كلا يا منال، ليس هذا هو السبب، أنا أفكر بالأمر منذ زمن.
زفرت..: يوسف، أنا أعمل لأنني أريد الاستقلال عنك. والانشغال عن حياتك المقرفة. لماذا سأحشر نفسي معك في العمل أيضا؟ ثم، أنت لا تقترح هذا كي "أساعدك"، أنت تريدني أن أكون تحت ناظريك، وتحت إدارتك دائما.
قال مدافعا: هذا جزء من الأمر، أعترف، ولكنه ليس هذا فقط. أنا بحاجة إليكِ. ليس من السهل أن يدير صاحب المال مالَه. ولكن، بمساعدتك، سيكون الأمر أفضل بكثير. ستحتاجين إلى فترة تدريب، ولكنك ستتعلمين بسرعة. ثم، افرضي أن شيئا حصل لي يوما، يجب أن تكوني قادرة على التصرف.
قالت ببرود: لو حصل لك شيء سأكون قادرة على توكيل من هم أكثر خبرةً مني، لن آخذ مكانك بنفسي، فكما قلت أنت، لا يفترض بصاحب العمل إدارة ماله بنفسه إلا لو كان ذا خبرة طويلة.
تنهد يوسف منزعجا حين فشلت حجته..: حسنا، معك حق في هذه النقطة. ولكن بقية كلامي لازال قائما.
: لا. لا أريد. انس الأمر.
: لا؟ ألن تفكري في الأمر أولا؟
: لا. مستحيل.
عبس، لم يكن يحب أن يسمع كلمة لا. ولم يكن معتادا على هذا.. قال محاولا أن يكون حليما..: قلتُ، فكري في الأمر فحسب.
زفرت بنفاد صبر.. قالت كي تتخلص منه: حسنا. سأفكر.
استرخى قليلا وهو يرمي سيجارته على المطفأة. نهض وجلس بجانبها كي يأخذ سيجارة جديدة، أشعلها ولم يعد لمكانه الأول حين رأى أن وجوده قربها أفضل بكثير، بل استرخى واستقر في جلسته. قال ببعض التوتر: هذا يأخذنا للشيء الثاني.. الذي أريد أن أقوله.
لم يعجبها توتره، إنه لا يتحفظ هكذا قبل الكلام عن شيء عادةً، أوحى لها هذا أن ماسيقوله سيكون شيئا فظيعا.
انتفضت رغما عنها حين أمسك يدها.. احتدت نظراتها كثيرا ولكنها لم تتحرك.. كانت يده باردةً، أحست بهذه البرودة تنتشر في كفها ببطء..
ترك سيجارته فوق المطفأة ثم أراح ظاهر كفها على باطن كفه.. تابعَت حركاته الغريبة بعينيها..
فتح بأصابعه كفها تماما، ثم حدق بباطن كفها المفتوح أمامهما. عرفت أخيرا إلى ماذا يشير، فعلى زاوية كفها كان أثر حرق قديم.
يبدو هذا الأثر خفيفا إثر مرور سنين طويلة عليه.. انزعجت حين تذكرت سبب الحرق واليوم الذي أصيبت به فيه.
قال بهدوء: لم أعد أتحمل أن أرى مثل هذه الأشياء على جسدك. لقد صار الأمر يصيبني بالجنون.
سحبت كفها من فوق كفه بحركة خاطفة، لقد هاجمها شعور غريب، وكأنه عرّاها. ليس جسديا، وإنما كأنه عرى ضعفها المتمثل في آثار إيذائه لها والمطبوعة على كل جسمها. سحبت أنفاسا سريعة من سيجارتها بينما قال هو: لقد قلّت الآثار كثيرا كما لاحظت، معظمها اختفى. أفترض أنكِ فعلتِ ذلك حين سافرتِ. ولكن كثيرا منها لازال موجودا. مثل الموجود على كفك، وغيره.
تساءلت كيف سيفكر يوسف ومانوع الجنون الذي سيصيبه لو عرف أن مديرها في "عملها" حين كانت هاربة هو من رتب لعمليتها بعد أن فحص جسمها العاري واستكشفه.
قالت ببرود: أنتظر وصولك لخلاصة حديثك يا يوسف، تعرف أنني لا أطيق المقدمات الطويلة. إنها عادتك التي لا تطاق.
تنهد يوسف.. لقد تعب، تعب من رؤية نتائج جنونه الطويل كعلامات جودة فوق جسدها. خصوصا الحرق الثاني، الذي على ظهرها، حين طبع اسمه فوقها بالنار. إنه يريد أن ينسى، ولكن وجود هذه الأشياء يعذبه. إن وجهها الكئيب وحده تذكار يومي له يذكره بأنه أخذ من أعماق صدرها جوهر السعادة نفسه وتركها عاجزة عن الشعور بأي شيء، إنه لا يحتاج إلى تذكارات أخرى.
سحب نفسا عميقا وقال: أريدكِ أن تخضعي لعملية تجميلية، سنزيل أي أثر باق عليكِ، وسنرتاح.
انكمش وجهها بقرف، وباشمئزاز شديد: نرتاح؟ تعني ترتاح أنت؟
انفعل مدافعا عن نفسه: كلا، نرتاح أنا وأنتِ.ستحسين بشعور أفضل، صدقيني. لقد فعلتُ أنا هذا كذلك، هل تظنين أن جسمي كان صافيا هكذا حين خرجتُ من منزل ذلك المجنون حسام؟
عضت على شفتها.. غمغمت باحتقار بدا واضحا على وجهها وصوتها: أنت تريدني أن أعرّض نفسي للجراحة والتخدير، والتعب الجسدي، والألم المرافق لهما، كي لا تضطر لرؤية آثار سفالتك وتفسد مزاجك حين تعرّيني إجبارا -شددت على لفظتها- وحين تغتصبني؟ ماذا؟ هل تفسد هذه الآثار تمتعك بجسمي؟ أنت تريدني أن أعاني كل هذا كي أتخلص من آثار ستصنع غدا مثلها بكل بساطة وسهولة؟ إلى أي حد ستتمادى في أنانيتك ونرجسيتك؟ هل عندك أدنى اهتمام بشعور إنسان واحد في الكون غيرك؟

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن