بالرغم من كل المصاعب القاسية التي مرت بها منال في حياتها، كل التحديات الشائكة، لم تكن قد جربت الموت من قبل.
على عكس يوسف.. الذي تذوق مرارة فقد أمه طفلا، لم يكن الموت مألوفا بالنسبة لها، لم تتعاط معه ولم تفكر كثيرا به.
حتى عندما مرض أبوها، جعلها تحسنه السريع، وقوته الظاهرية، تنسى قلقها من فكرة موته.
هذه المرة، كانت تجرّب ذلك الشعور الرهيب، كانت تتذوق حموضة فكرة العدم والنهاية.لقد عاد أبوها إلى حياتها في أول حملها بفارس، أي منذ ثماني سنين على الأقل. ولقد قضت سنين ترفض التواصل معه والتعامل معه، وصبر هو وانتظر، كل تلك السنين، حتى رضيت أخيرا بدخوله إلى حياتها.
ولكن، على مدى تلك السنين الثماني، كان موجودا، كان بانتظارها، متى ما رغبت، كان باستطاعتها أن ترفع الهاتف لتجده مباشرة على الطرف الآخر.
مهما حصل، تشاجرا أم تراضيا، كانت تستطيع الوصول إليه، متى ما أرادت.
الآن، لقد قُطع هذا الخيط. إن أباها لم يعد موجودا، ولن يكون مطلقا. لن تسمع صوته من جديد، لن تتكلم معه، ولن يتكلم معها. ومهما احتاجت وجوده، لن تحصل عليه.
كان هذا مافكرت به وهي تنهض ببطء شديد، وجمود، من مكتبها بعد المكالمة، تركب سيارتها وتتجه إلى المستشفى بحركات آلية للغاية.
إن أباها صار عدما، هذه كانت الفكرة الوحيدة التي سيطرت على ذهنها لتحولها إلى جماد.. كانت عضلاتها متصلبة للغاية لفرط الخوف، كانت تتحرك بصعوبة، تمشي بصعوبة، وحتى عضلات فكها كانت منكمشة للغاية لدرجة أن أسنانها كانت تحتك ببعضها.بينما كانت توقف سيارتها أمام المستشفى، فكرة أخرى بدأت تحتل ذهنها.. الفكرة التي يفكر بها كل إنسان يبلغه خبر موتِ عزيز عليه.
فكرت.. ماذا لو كان الخبر خاطئا؟ ماذا لو كانت غلطة؟ ماذا لو خلطوا بين أبيها وبين شخص آخر؟ ماذا لو استطاعوا إنعاشه ولم يعرف المتصل بها بذلك؟ ماذا.. لو.
تمسكت منال بهذا الأمل التعيس وهي تمشي بصعوبة لفرط انقباض عضلاتها خلال ممرات المستشفى.
تبادلت كلمات معدودة مع موظفي الاستقبال، ثم مشت حيث أرشدوها. لم تعد تمشي ببطء، على العكس، كانت تسرع بشدة محاربة ألم ساقيها، قال لها عقلها أن تتعجل كي تكتشف الخطأ وينتهي الكابوس.
وصلت إلى الغرفة المحددة. طبيبة، ممرض وممرضة، وامرأة كانوا أمامها منشغلين بالحديث.
عندما اقتربت ميزت المرأة من الصور التي رأتها في بيت أبيها.. كانت زوجة أحمد، ابتسام. تباطأت خطواتها وأحست بخوف بارد في صدرها حين تهشم أملها دفعة واحدة.لاحظتها المرأة، قطعت كلامها مع الطبيبة ونظرت.. كانت منال واقفة أمامهم متجمدة بلا حركة.
تقدمت ابتسام منها وقالت بهدوء: أنتِ منال، صحيح؟
سكتت منال وظلت تحملق بها.. كانت على وجه ابتسام ملامح متعبة للغاية، وكانت على عينيها آثار بكاء بدأت تجف.
تنهدت ابتسام وقالت بذات النبرة الهادئة: ادخلي إذا أردتِ رؤيته.. جعلتهم ينتظرون قبل أن يأخذوه إلى الثلاجة كي تحصلي على بعض الوقت معه. أبلغينا حين تفرغين.
من جديد لا رد.. تنهدت ابتسام وقالت ببعض القلق: هل أنتِ بخير؟
أفاقت منال من حالة ذهولها.. ودون جواب دخلت إلى الغرفة، عليها أن تراه كي تتأكد.
كانت الغرفة خالية إلا من جسد مسجى على السرير، مغطى من رأسه إلى أخمص قدميه بغطاء أبيض رقيق.
عضت منال على شفتيها وعادت عضلاتها كلها لتنقبض لدرجة مؤلمة. كانت هذه ردة فعل غريبة من جسمها لم تجربها من قبل. نظرت إلى كفها بتعجب حين عجزت حتى عن فتحه. كانت كفها كلها منكمشة على شكل قبضة. لم تكن قبضة مشدودة تماما، ولكنها لم تستطع فرد أصابعها إلى آخرها.
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...