فتحت جفنيها بصعوبة في ساعة متأخرة من النهار.. ما إن لامس الهواء عينيها أحست بهما تحترقان وكأن النار اشتعلت فيهما.
أغمضت عينيها بشدة من جديد.. هذا الاحتراق كان تذكيرا سريعا لها بكم بكت في الأمس. ذكرها هذا فورا بسبب بكائها، بكابوسها الذي نسيته خلال الثواني الأولى القليلة من استيقاظها.حركت يدها بصعوبة، سحبت وسادة يوسف من جانبها ورمتها على وجهها كي تحجب نور الشمس عنه. حين أحست برائحة يوسف واضحةً على الوسادة هدأت قليلا، على عكس العادة، وحاولت أن ترتخي وتعود للنوم. كانت تريد أن تهرب فقط. لا يمكنها أن تظل مستيقظة، فهذا يعني أن تواجه حقيقة وفاة أبيها. إن النوم أسهل، أسهل بكثير.
: منال؟ أفقتِ؟
لم تتحرك على أمل أن يتركها وشأنها.. ولكن..
: منال، أعرف أنك مستيقظة. الطبيبة هنا، أريدها أن ترى جروحكِ. حسنا؟
صوت ضعيف للغاية لدرجة أنها لم تميّزه، ولم تصدق أنه صوتها، صدر عنها: حسنا.وقف يوسف عند باب الغرفة محدقا بها.. متسائلا كيف تشعر بعد حالتها الهستيرية بالأمس. نظر إلى ذراعيها اللتين بدتا في حالة شنيعة.. كان يعرف أن هذه الجروح أسوأ من أن يعتني بها بنفسه، أراد أن تراها الطبيبة بنفسها كي يطمئن.
: تفضلي..
دخلت الطبيبة بتردد.. شيء كالعقدة النفسية أصابها من هذا البيت، في كل مرة تأتي إلى هنا تفاجأ بشيء مجنون.
اتجهت نحو منال.. قالت بنعومة: هلا أزلتِ الوسادة يا عزيزتي؟
لم تسمع ردا.. تنهد يوسف بتعب.. يمكنه التعامل مع عناد منال في الأيام العادية، يمكنه أن يصرخ في وجهها وأن يخيفها، يجري الأمر بعدها بسهولة. ولكن.. لم يكن ليفعل وهي في مثل هذه الحالة.. كيف إذن سيجعلها تنفذ مايريد؟
قال بضيق: منال، أزيلي الوسادة من فضلكِ!
خلال ثوان أزالت منال الوسادة عنها ووضعتها جانبا مثبتة عينيها على السقف.. قطب يوسف حاجبيه متفاجئا.. ماهذا الانصياع الغريب؟عبست الطبيبة وهي تتأمل وجه منال.. كانت عيناها كرتين حمراوين جاحظتين، وشعرها ملخبطا، شفتاها كانتا جافتين وأنفها متحسسا ومقشرا لكثرة احتكاكه بالمناديل.
ثم خفضت عينيها إلى يدي منال.. فركت جبينها بتعب وفقدت أعصابها أخيرا لتقول بعصبية: ماذا تفعلان أنتما الاثنان في هذا المكان؟ ماهذا؟
أجاب يوسف منزعجا: اهتمي بعملك فقط من فضلك!
أطلقت الطبيبة زفرة ممتعضة قبل أن تنشغل بذراعي منال وفخذيها.. احتاجت ثلاثة من جروح منال إلى تخدير وخياطة سطحية لعمق الجروح، بينما ضُمد ماتبقى بشكل عادي. لم تنبس منال بحرف وظلت مستسلمة لمايُفعل بها.
عندما فرغت الطبيبة ضمدت جروح يوسف الذي رفض أن تلمسه قبل أن تنتهي من منال بشكل كلي.
غادرت الطبيبة المكان تاركةً منال ويوسف وحدهما..اتجه يوسف إلى دولاب المستلزمات الطبية، أخذ قطرةً مرطبة للعيون وعاد إلى منال.. جلس بجانبها ومسح بإبهامه على جفن منال المغلق..
: افتحي عينيكِ.
فتحت منال ورمشت منزعجة من شعور الاحتراق الشديد في عينيها والذي هاجمها من جديد..
فوجئت حين فتح يوسف عينها أكثر وثبت جفنها بأصابعه قبل أن يقطر بضع قطرات داخلها. فعل الشيء ذاته مع عينها الأخرى بحركة سريعة.
أغلق الزجاجة الصغيرة قبل أن يهمّ بالنهوض.. أوقفه صوتها الخافت..: كيف عرفتَ؟
قطب حاجبيه والتفت إليها: ماذا؟
أغمضت عينيها وقالت بصوت مخنوق: كيف عرفت أن عيني تزعجني؟
سكت محتارا لغرابة السؤال.. قال بهدوء: لاحظتُ إغلاقك المتكرر لها وتقطيبتكِ.
تنهدت بتعب وسكتت.. لم يفهم إن كانت مستاءة أم راضية.. قال محافظا على نبرته الهادئة: كيف تشعرين اليوم؟
عادت عيناها إلى السقف بحركة يائسة.. ثم قالت متجاهلة سؤاله، بصوت سمعه بالكاد: هل علينا إخبار فارس؟
سكت بتفكير.. كان هذا سؤالا في محله.. هل سيتحمل فارس شيئا كهذا؟ إنه يعاني من فوبيا الافتراق عن من يحب أصلا.. فماذا لو صار مفهوم الموت جزءا من هذا الخوف؟
مرر يوسف كفه في شعرها الفوضوي ثم قال: دعينا نستشير طبيبته. ما رأيكِ؟
همهمت موافقةً له وسكتت من جديد.. سحب يده عن شعرها وقال: سأذهب لأخذ فارس من المدرسة، لقد أوصلته سارة إلى هناك صباحا. هل عندكِ مانع بما أنه لايعرف أنني عدت بعد؟
نظرت إليه لأول مرة منذ أفاقت.. قالت بخوف فاجأه وهي تمسك بكمّ قميصه: لا يايوسف، ابق معي!
سكت بصدمة.. إلى أي درجة كانت نفسية منال محطمة كي تطلب منه هذا الطلب؟
مع ذلك، لن ينكر أن هذا أعجبه.. بقدر ما أحزنه حزنها، كان يتلذذ بشعور أنها تحتاجه، وأنها تريد وجوده. لقد أنعشته تلك العبارة التي نطقتها ومنحته شعورا افتقده طويلا.. بالإضافة إلى ذلك.. كم تمتعَ بممارستهما ليلة الأمس.. كانت وقتها ذائبة باستسلام كالزبدة بين يديه، وكانت تئن لفرط اللذة مع كل لمسة كان يضعها على جسمها.. هاجمه بعدها فورا شعوره بالذنب لأنه يستفيد من تعاستها. تضارب هذان الشعوران في داخله تاركين إياه في صراع.
قبض على كفها وقال بلطف: تمام، حسنا، لن أذهب، لاتقلقي.
زفرت بارتياح وأغمضت عينيها.. تمتمت: أريد أن أنام.
: تنامين؟ لقد أفقتِ للتو.. دعينا نفطر، ما رأيكِ؟
لم تتحرك، كررت بفتور: سأنام.
تخلى يوسف عن محاولاته وسكت.. لم يكن هذا وقتا ملائما للضغط عليها.
هاتف سامر وأمره أن يجيء بفارس، ثم أرسل لفارس رسالة من هاتف منال يبلغه فيها بذلك. تكلم كذلك مع الموظف المكلف بالاعتناء ببندق، طالبا منه أن يبقيه معه مزيدا من الوقت حتى يقرر أن يأخذه منه.
ظل بجانب منال، تابع بأصابعه تقاسيم وجهها بينما أغمضت هي عينيها، وفوجئ بأنها غفت بسهولة خلال مدة قصيرة.. تنهد وبحث عن المنوم، وكما توقع، وجد العلبة تحت وسادتها. أخذه وقرر إخفاءه، إذا تركه معها ستظل تبتلعه مجبرةً نفسها على النوم هروبا من الواقع.

أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...