١٠٦

1.5K 59 21
                                    


أفاقت منال في ساعة مبكرة.. إن الشمس لم تشرق كليا بعد، ويوسف وفارس لا يزالان نائمين بعمق..
جلست بحذر كي لا توقظهما.. ثنت ساقيها وضمتهما إليها، وتأملت المدعو زوجها، وابنها بعينين كئيبتين..

إن يوسف المستلقي على ظهره مستغرق جدا في نومه.. وتقطيبة خفيفة كانت تشد حاجبيه إلى بعضهما.. كان فارس لازال يعانق ذراعه، وكان نائما هو الآخر على ظهره مسندا رأسه على كتف أبيه، بينما ارتخت وجنة يوسف على رأس فارس.

تنهدت حين أثر بها ذلك المنظر ولم تستطع انتزاع عينيها عنه.. بديا متقاربين للغاية، وبديا وكأنهما يستمدان الطمأنينة من بعضهما..
لقد جعلتها ردود أفعال فارس بالأمس تدرك إلى أي حد هو يعشق يوسف.. لقد خافت هي شخصيا حين رأت وجه يوسف المشوه.. ولكن فارس لم يخف، لقد ارتعب فارس من أجل أبيه، وغضب لأنه تأذى، ولكنه لم يخف من مظهره الدموي، وهذا يخالف ردة الفعل الطبيعية التي قد تصدر من أي طفل.
لقد تصرف فارس بنضج، وحرص على تهدئة أبيه ومواساته.. كلما فكرت منال في هذا كانت تدرك أن فارس طفل أكثر تميزا بكثير من كل تقديراتها.. إنه طفل ذكي ورقيق وحساس، وعلى عكس مخاوفها، لم يكن يشبه يوسف على الإطلاق..

قُطعت أفكارها وتأملاتها حين عبس يوسف بعض الشيء وغير وضعيته مستندا على فارس أكثر،  أطلق نفسا وعاد لنومه المستقر مرة أخرى..
عادت لتدرس شكل يوسف.. الجروح الموزعة على وجهه، شفته المشقوقة وأنفه ذو الكسر القديم.. ثم تأملت شعره الذي كانت شعيرات بيضاء ورمادية غير قليلة متناثرة وسطه.. ذلك البياض كان يتوزع بعض الشيء على شعر ذقنه كذلك..
لم تكن قد أطالت التدقيق في هذا من قبل.. مع أن هذا اللون الرمادي موجود في شعره منذ سنين كثيرة رغم صغر سنه..

نهضت بحركات خفيفة، لم يحسا بحركتها.. دخلت دورة المياه ورمت ملابسها أرضا قبل أن ترتخي تحت الماء الساخن..
فكرت بكلامه الذي قاله بالأمس وزفرت.. لم تكن تعرف كيف ستتصرف.. إن يوسف لم يكن يفكر بواقعية.. بالنسبة لها، كان يتصور عالما خياليا ورديا ينسى كلاهما فيه الماضي وتحل كل مشاكلهما فجأة ليعيشا حياة سعيدة هانئة.. لم يكن ذلك منطقيا في نظرها، لم تكن لتنسى الماضي، وتؤمن أنه هو بالمقابل لن ينساه..
قررت أنها ستعامله معاملة هادئة للغاية، لا بلطف بالغ ولا بخشونة، حتى يتجاوز صدمة أبيه، وبعدها ستعود لطبيعتها الجافة معه.
قررت أنها لن تسمح لنفسها بأن تقع في مطب غبي مثل أن "تحبه" كما طلب منها.. لن تسمح له بليّ الأحداث كي توافق مصالحه ورغباته..

خرجت من الحمام ملتفة بمنشفة وقد استعادت غضبها عليه كليا.. أخذت ملابسها من الدولاب وخرجت لترتديها في غرفة أخرى..
جهزت فطورا خفيفا لثلاثتهم، حرصت على تجميل المائدة أكثر من عادتها.
إن موائدهم دائما أنيقة بالضرورة، كان ذلك شيئا يحرص عليه يوسف. إنه لا يتحمل أن تميل ملعقةٌ واحدة عن مكانها ولا أن يتحرك الكوب عن موضعه ملي مترا واحدا، وكان يعشق أي نوع من الزينة والبذخ في تنسيق الموائد.
ولكنها هذه المرة أسرفت في الأمر بعض الشيء، حيث قامت بطيّ المناديل إلى بجعات، ووضعت مزهرية ورود بيضاء في الوسط، وصنعت بالفواكه المقطعة أشكالا وأنماطا.
كانت تحاول أن تجعل الجو آمنا ومريحا بعد ذلك اليوم الصعب الذي عاشه ثلاثتهم بالأمس.. إنها لاتريد أن تبقى الكآبة في الجو وتؤثر على فارس..

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن