١٤٦

943 52 18
                                    

حرك يوسف سيارته بضيق مبتعدا عن المنزل، وهو يحس بهالة من الكآبة تغلفه وتحيط به، كالعادة بعد كل مواجهة مع تلك العائلة.
رمق بطرف عينه العلبة الموضوعة بإهمال على كرسي الراكب بجانبه، تنهد وزاد سرعته وهو يتساءل متى سيفتح هذا الشيء وأين.
كان يحس بالوحدة، ويحس بنفاد صبر كبير.. كم يكره التفكير بأمه.. كم يمقت ذلك الشعور.
أمه التي انتُزعت منه في وقت أبكر بكثير مما يجب، أمه التي منحته حبا دافئا وغامرا وغير مشروط.
لمعت في ذهنه صورة مشوشة لها.. لم يكن يتذكر ملامحها جيدا بما يكفي، ولكن، كان وبغرابة يتذكر جيدا رائحتها، رائحة اللاڤندر الناعم. وكان يتذكر صوتها، وهيئتها العامة الملائكية. تساءل يوسف، هل كانت هي فعلا بهذه المثالية، أم أن عقله يخدعه فحسب بسبب اشتياقه لها ورقّة ذكرياتهما معا؟
لقد أحبته أمه بشغف عجيب.. لقد همست في أذنه بصوت مخملي ساحر عبارات الحنان والاحتواء، وتأكدت أنه يعرف كل يوم كم هو محبوب. لم يكن حتى الآن يفهم كيف تحمّل خسارتها.. لعله كان مشغولا عن حزنه بما كان أحمد يفعله له وقتها، ولكنه كان يفتقدها بوحشية حتى هذه اللحظة، افتقادا لم يهدأ ولم يتوقف ولم يخفت.

وجد نفسه يغير طريقه، وخلال دقائق كان يوقف سيارته أمام منزل هديل. أحس أنه بحاجة ليتصرف كما يشاء دون أن يفكر بالعواقب. وأحس أنه يريد أن يختلي بذكرياته دون مقاطعات.
نزل وهو يحمل الصندوق في يده، دخل المنزل ليجد أن هديل كانت جالسة في صالة المنزل، وبدا أنها كانت تذاكر.
انكمشت هديل مع دخوله وتحركت لتستقبله، كانت قد بدأت تعتاد على الحركة حول المنزل بسبب قصر زياراته ومحدوديتها. كان يدخل، يمارسان الجنس دون كلام كثير، ثم ينسحب بسرعة كما جاء. صارت تحس أن ما يفعله معها كان واجبا روتينيا للتخلص من احتياجه، مما جعل حياتها أسهل بعض الشيء، فهو لم يعد يتسلى بإخافتها كما كان يفعل.

أشار لها يوسف لتظل جالسة وقال وهو يتجه إلى جناحه دون أن ينظر إليها: ابقِ مكانكِ. لا تدخلي عندي ولا تزعجيني.
سكتت متعجبة، لم يكن يفعل هذا عادةً، ولكنها لم تهتم، كلما كان بعيدا عنها، كان ذلك أفضل.

دخل يوسف غرفته، جلس على الأريكة ووضع الصندوق جانبا وهو يحدق في السقف.. من النادر أن يرغب يوسف بالخلوة والخصوصية هكذا، خصوصا ليس عن منال. ولكن، هذا المكان تحديدا، هذه الغرفة كانت المكان الأنسب لشعور كهذا، فهو سيخوص مغامرة جديدة تماما، سيواجه لأول مرة ذكرياته مع أمه، كان خائفا وقلقا وحزينا، وكان بحاجة لمكان يشعره بالقوة، ويجعله يحس ولو بشيء من السيطرة.

سحب نفسا وأمسك بالصندوق ووضعه على حضنه.. تلمسه بتفكير عميق وهو يحس بقلبه يخفق بسرعة.
فتح الغطاء ببطء وأحس بشيء ثقيل يطبق على صدره.. كانت في الصندوق أشياء عشوائية يتذكر معظمها.. سوار، حلقة شعر قماشية، دبّوس ذهبي، ساعة، تذاكر سينما قديمة، وردة مجففة ميّزها يوسف حيث ذكرته بنزهاتٍ اعتادا أخذها.
تنهد وهو يقلّب الدبوس في يده، كان شيئا تضعه أمه على صدرها دائما.
وجد كذلك رزمةً من الرسائل التي تبادلها حسام مع أمه قبل زواجهما وكذلك في فترات سفر أحدهما أو ابتعادهما عن بعضهما.
قلّب الأوراق ببعض التوتر وهو يلاحظ لهجة الحب والعاطفة المتقدة في كلامهما مع بعضهما.. كان يقرأ جانبا لم يكن يفهمه جيدا من أبيه.. جانبٌ ذكّره قليلا بمشاعره هو تجاه منال، وهذه كانت فكرة تخيفه دائما ولم يكن يحب تذكرها..
حتى أمه كانت تكتب لحسام بعاطفة جيّاشة ومحبة كبيرة مما جعله يفهم أكثر لماذا كان حسام متعلقا بها لذلك الحد.. لقد كان الحب بينهما متبادلا بكل معنى للكلمة، وكان ذلك سببًا آخرا جعل حسام ينزعج من وجوده، لقد كان يخطف اهتمام أمه ويسيطر على حياتها، ويسرقها من أبيه.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن