٨٤

1K 58 11
                                    

نظرت منال إلى هاتفها الذي يهتز مظهرا اسم يوسف على الشاشة.. أزاحت الهاتف كي لايقع عليه نظر فارس الذي كان جالسا بجانبها منسجما بمتابعة مسلسل كرتوني يبث في التلفاز.
فكرت لثوان، لم تكن تريد أن تتكلم معه، لأنها أحست بشيء غريب منه اليوم.. شيء ذكرها بعاداته القديمة.. شيء أوحى لها أن حبه لها سيبدأ باتخاذ شكله السام والبشع من جديد، عوضا عن شكله الرقيق الذي كانت تراه منه معظم الوقت مؤخرا.. ولهذا بدا لها أن مافعله مع أبيه جعله أكثر خطرا ووحشية، لا أقل.
ولكنها في نهاية الأمر أجابت، فقد يقول لها شيئا مهما بخصوص وضعه مع أبيه وتأثير ذلك على أمن فارس.
: نعم؟

زفر يوسف براحة حين سمع صوتها.. لاحظ إخوته الذين كانوا منخرطين في نقاش حاد بعض الشيء، لم يكن باستطاعته سماعهم لبعد المسافة، ولكن الواضح أنهم كانوا في جدال.
أحس برعشة.. لم يكن يخاف منهم، ولكن كرهه لهم كان حادا لدرجة تؤذيه، كان كرها هائلا جدا رغم أنه لم يتأذ فعلا بسببهم.. كانوا يحتقرونه، ولايعاملونه كما يجب، كما لم يبالوا بما يحصل معه مطلقا. ولكن هذا لم يتطور إلى أي سلوك عدائي سوى الكلام والسخرية. ووقتها لم يكن هذا أكبر مشاكله، حيث كانت عنده هموم أكبر مثل الطعام، وتجنب الضرب.
وهكذا لم يكن السبب الرئيسي الذي يجعله يكرههم سلوكهم معه، وإنما، كما أدرك لاحقا، كان يكرههم لفرط ماكان يحسدهم، ولفرط ماكان تجمّعهم كعائلة صغيرة سعيدة يجعله يحس بالنبذ والضآلة. كان يكرههم للشعور الذي أحس به لمجرد رؤيتهم، لمجرد سماعهم، لمجرد نظره لملابسهم الباذخة ووجوههم النظيفة وشعورهم الناعمة فيما كان هو يمثل العكس من كل ذلك.. كره رؤيتهم في أحضان والديهم، كره رائحتهم الحسنة وألفاظهم المنمقة المهذبة. لطالما لعن أولئك المدللين في داخله واشمأز منهم. وهاهو الآن يحس بنفس الشعور وهو يراهم مجتمعين ضده.

: مرحبا؟
أفاق من أفكاره على صوتها..
: ماذا تفعلين؟
قطبت حاجبيها مستغربة السؤال، ومستغربة صوته الجامد.. قالت موضحةً له أنها لاتستطيع الكلام بحرية: مع فارس.
أجاب بصيغة أمر: اتركيه، اذهبي لمكان آخر كي نتكلم.
احتاجت لحظات كي تسيطر على غيظها من طريقته في الكلام، ثم نهضت.
دخلت الغرفة وقالت بحدة: ماذا تريد يايوسف؟ أليس باستطاعتك أن تكلمني كالإنسان؟
أجاب ببرود: يمكنني أن أتكلم معكِ بأي طريقة أشاء.
صرت على أسنانها بغيظ: فعلا؟
ارتاح قليلا حين سمع الغضب في صوتها.. لقد عرف الآن لماذا اتصل بها، لأنه بحاجة للإحساس بالقوة. باستطاعتها منحه القوة إذا عاملته بعاطفية ومحبة، ولكنه يعرف أنها لن تفعل، ولهذا، كان سيمتص القوة منها عن طريق التصرف بحيوانية.
أجاب بنبرة هادئة: فعلا. لأنكِ ملك لي.. يمكنني أن أفعل معكِ ماشئتُ. لقد علمتكِ هذه الأشياء، كيف تنسينها بهذه السرعة؟

سحبت نفسا عميقا.. أقسمت ألا تنفعل.. ألا تعطيه مايريد.. عرفت جيدا هدفه من هذه المكالمة، لطالما فعل معها هذا، قررت أن تقلب الطاولة عليه..: حولك أحمد، أو أبوك وزوجته. هؤلاء الثلاثة هم من يدفعونك للتصرف بهذه الهمجية. كم أنت ضعيف وهشّ، كم يسهل أن يتلاعبوا بك. هل تلاحظ؟
مرر كفه بعصبية على الكسر في أنفه.. ولكنه أجاب بالبرودة ذاتها دون أن يظهر الغضب في صوته، رادا لها الضربة: ترتعدين خوفا مني، رغم أنني "ضعيف وهش" بحسب تعبيرك.. ماذا يقول هذا عنكِ أنتِ؟
عضت على شفتها بقهر وتسارعت أنفاسها حين نجح في لمس نقطة غاية في الحساسية.. أغمضت عينيها.. اللعين.. القذر..
لم يسمع ردا.. وكالعادة، ندم مباشرةً على ماقال.. مرر كفه في شعره بانزعاج.. لمَ يتصرف معها بهذا الشكل؟ لم يفرغ مشاعره السلبية عن طريقها؟ ألأنها تحرمه محبتها؟ ألم يكن هو السبب في ذلك؟
كور كفه وفردها عدة مرات.. قرر أن شيئا واحدا سيساعده على تخطي مصادمته مع إخوته.. قال بنبرة عنهجية: أريدكِ في غرفتي، في الفندق، الليلة. بعد أن ينام فارس. لا تفكري بالرفض، تعرفينني حين أجن. سأجعلهم يجرونكِ إلي إذا لم تجيئي بنفسك. فهمتِ؟
ظلت ساكتة.. كانت تعض على طرف إبهامها بشدة بين أسنانها.. يأكلها العجز من الداخل.. هي فعلا لم تكن تجرؤ على الرفض.. لقد كان محقا، إنها تخافه، تخافه أكثر من أي شيء. خصوصا حين تسمع منه هذا الصوت.
انتفضت حين قال بحدة: أريد ردا، أسمعيني صوتكِ!
جلست على الأرض مسندةً ظهرها إلى الجدار.. شدت ساقيها إليها وأحست برطوبة خفيفة على ظهرها وفي باطن كفيها لفرط الخوف والانفعال.. لم تتكلم. لم يكن كبرياؤها يسمح لها بالتجاوب.. ولم يكن خوفها يسمح لها بالعناد.
قال باستفزاز: واحد.. اثنان.. ث-
قاطعته من بين أسنانها: هل تشعر بالرضى؟ هل تحس بالقوة يايوسف؟
سكت لحظات قبل أن يجيب بهدوء: نعم. لقد أدت هذه المكالمة غرضها.
تمتمت: يالك من حقير..
تنهد.. قال خاتما المحادثة: الليلة يامنال، لاتنسِ.
أغلق دون أن ينتظر ردها.
صرت على أسنانها وتركت الهاتف.. نظرت إلى طرف إبهامها الذي ارتسمت عليه آثار عميقة لأسنانها.. كانت تفهم كيف يفكر يوسف، يعتبر أن هذه المواقف لا أهمية لها، لأنه يفترض أنها تفهم دوافعه، أنها تفهم أنه يفعل هذا لمصلحته هو، وليس كي يؤذيها هي شخصيا. ولهذا يبرر لاحقا بقوله "لم أقصد ماقلت"، وكأن هذا يغير شيئا..

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن