٣٢

1.6K 41 1
                                    

مساءً كان يوسف يتصل بمنال فيما جلست مع فارس لتساعده في دروسه.. رفعت هاتفها: نعم؟
جاء صوت يوسف باردا وهادئا: لا تنتظراني وقت العشاء. سأتأخر.
كان صوته غريبا.. فكرَت. انه غريب منذ الصباح.. كان عاطفيا في اول الصباح ثم دخل في حالة هدوء غريبة بعد الموعد. ظنت في بادئ الامر ان هذا راجع لكلام الطبيبة عن والديه، ولكن بدا لها ان الامر اكثر من ذلك. اجابته بهدوء: حسنا.
اغلق الهاتف مباشرة دون ان يتكلم اكثر. زفرت منزعجة. انه لايكلف نفسه عناء كلمة الوداع.
انتبهت لفارس الذي كان ينظر اليها بتساؤل.. ابتسمت: سيتأخر بابا اليوم. سنتعشى وحدنا.
ظهر الامتعاض على فارس من جديد..: ولم يأتِ معنا اليوم كذلك.
: ما المشكلة يا فارس؟ ان العمل يشغله.
تنهد..: ماذا لو تنزهنا من جديد غدا وجاء برفقتنا؟
قطبت حاجبيها: لا. نحن لن نذهب الى اي مكان قبل مضي اسبوع. انا لم انس عقابك ولكنني اخذتك اليوم لانك كنت متعاونا مع الطبيبة.
عبس بغيظ: ولكنني لم افعل شيئا خطأ كي اعاقب!
: اوه. انا اظن انك فعلت.
قال بامتعاض: خطئي اني اريد البقاء معك. هل هذا خطأ؟
تنهدت ممررة كفها في شعره: بالطبع لا. الخطأ انك لم تطع اباك، كما انك رفضت النوم على بعد غرفة واحدة مني، وهذا ليس صحيحا ولا صحيا، هل يعقل ان لاتنام الا حين اكون بجانبك؟
لم يكن هذا الجواب مرضيا لفارس.. سكت وانشغل بالكتابة في مذكرته فيما عبثت منال بشعره مجددا محاولة مواساته..

بعد ان انهى يوسف مكالمته مع منال ارخى رأسه على مقعد السيارة حيث كان يجلس.. نظر من النافذة متأملا المنزل المقابل له، منزل عائلته.
انه مضطر لحضور حفل مهم يقيمه ابوه.. حيث يجتمع كثير من الشخصيات الهامة. انه مضطرب وخائف وقلق. فوجود والده لا يحفز الكراهية فقط في داخله، بل يحفز شعورا هائلا بالخوف، ويزعزع الامان في داخله شاعرا انه عاد طفلا صغيرا.
فتح عينيه المغمضتين حين سمع صوت طرق على زجاج نافذته.. رأى اخته سارة تقف هناك.. فتح النافذة وحدق بها بصمت.. بدا عليها القلق: هل انت بخير؟
: انا بخير.
تنهدت: حسنا. اعتذر على ازعاجك.
تحركت مبتعدة.. ناداها نازلا من السيارة: انتظري.
التفتت متعجبة.. صحيح ان علاقتهما تحسنت منذ ساعدته في رعاية فارس وقت غياب منال، ولكنه لازال يقيم الكثير من الحواجز معها.. ولم تشعر يوما برغبته في الحديث معها، وهي لم تكن تحاول ان تضغط عليه.
عادت وسكتت بانتظار ان يتكلم.. لاحظت توتره وقلقه.. انه يرتجف بعض الشيء.. سحب نفسا عميقا وقال بهدوء: هلا تكلمتِ معي؟ انا بحاجة لصحبة قصيرة.
ابتسمت: بلا شك. -بدأت مباشرة بالكلام عالمةً انه ليس ذا موهبة اجتماعية- ما جديد فارس؟ انا افتقده.
ابتسم يوسف مجبرا حين تذكر فارس..: انه بخير. يسأل عنكِ دائما.
: هل احبَّ اللعبة الالكترونية التي ارسلتها له في العيد؟
: انه يلعب بها طوال الوقت، ويجبر منال على اللعب معه. لقد احسنتِ الاختيار.
لاحظت سارة انه لم يذكر ان فارس يلعب معه هو كذلك، واكتفى بذكر منال. ولكنها لم تعلق..
قبل ان تجيبه تكلم مجددا بسرعة: هل هو في الداخل؟
من الواضح انه يعني اباها، حيث اكفهرت ملامح وجهه.. تنهدت: نعم. لقد اكتمل الضيوف تقريبا.
زفر زفرة طويلة: لندخل اذن.
ابتسمت محاولة ان تعطيه المساحة التي يحتاجها: سأسبقك.
راقبها وهي تغيب داخل المنزل العملاق، حيث وصلت لاذنه الموسيقى الكلاسيكية ولمعت امامه انوار الحديقة.
انه يمقت هذا المنزل حيث عاش اسوأ لحظات حياته وابشعها.. جر قدميه جرا الى الداخل.. تعجل والده نحوه فور ان لمحه.. قال من بين اسنانه: لقد تأخرت.
حدق به يوسف ببرودة ولم يعلق، شاعرا بقلبه يغوص في صدره. اتجها حيث المقاعد المجاورة للمسبح الكبير.. القى والده نكتة للجالسين عن تأخيره، ثم انخرطوا في محادثات طويلة.. ابوه، وزوجه ابيه، وابناؤهما، والضيوف الرائحون والغادون.. لم يتمكن يوسف من الانسحاب، واضطر للبقاء ساعات عدة حتى اوشك المكان ان يخلو.. بقي هو وابوه على تلك المقاعد..
ان الساعات الماضية استهلكت طاقته كلها.. كان جالسا على الكرسي ممسكا بكوب شرابه الكحولي شاعرا بثقل في كل جسمه يمنعه من الحركة.. رغم رعبه الهائل من الخلو بأبيه.. لم يستطع الحركة.. وظل يتأمل انعكاس الانوار على السائل الاحمر الذي يملأ كأسه..
: اذن.. لازلتَ متزوجا من ابنة ذلك الرجل.
رفع يوسف عينيه على ابيه ببطء.. كان ابوه بالمقابل مسترخيا في جلسته، يتأمله بنظرات باردة عابثا بكأسه هو الآخر..
تحمحم يوسف ولم يتكلم.. تابع أبوه بهدوء: كان هذا الزواج، ووجودها عندك يزعجني. ولكنني ادركت متأخرا انني مخطئ.
قطب يوسف حاجبيه.. تابع أبوه: انك مخلوق لايعاش معه. انك تكره اباها اكثر من كرهك لي.. لاشك ان هذه الفتاة المسكينة عانت كثيرا معك. بالطبع، هذا يزعجني، انها لم تؤذ احدا.. ولكن في الوقت نفسه، انه انتقام رائع من ذلك الرجل الخبيث الذي قتل امك. لقد انتزعتَها منه، ولا شك عندي انك عذبتَها، ولهذا، يجري الامر في مصلحتي.
كان عيون يوسف تحدق في ابيه ببرود وحدّة هائلة.. انه لا ينطق.. انه جامد فقط.
تابع والده بنبرة مستفزة: كما لا شك عندي انها لم تنجب ابنك طواعية، ولم تدخل سريرك طواعية.. -ابتسم ببرود- اتساءل كم كان عمرها حين بدأتَ تجبرها على نفسك؟
اشتدت كف يوسف على الكأس.. أحس بشيء يحترق في جوفه وبرغبة هائلة في التقيؤ.. ان العرق يغطي جسمه واسنانه تصطك.. ومع ذلك هو يحس بضعف شديد ولا يجرؤ على الحركة.. ظل على صمته وجموده وجرع جرعة من مشروبه بيد مهزوزة..
رفع ابوه حاجبيه.. توقعاته كانت ان يثور يوسف ويجن.. تابع مكثفا الجرعة: مع ذلك.. لا شك ان هذا ارضاك، لقد اخذت حقك من ابيها الذي فعل لك الشيء نفسه.
ارتعد يوسف واعتدل في جلسته بعدم راحة.. مرر لسانه على اسنانه.. وضع كوبه جانبا واشعل سيجارة.. سحب النفس الاول وتابع تحديقه الصامت بأبيه.. ابتسم ابوه وصفق بيديه صفقتين: احييك.. لا اعرف كيف لم تثر ثورتك الهمجية تلك حتى الآن.. يبدو انك نضجت اخيرا..
شرب يوسف من كأسه ممسكا بسيجارته باليد ذاتها.. لازالت ملامحه وجهه باردة شديدة البرود..
اقبلت زوجة ابيه.. احس بتعرقه يزيد وجاهد كي لا يرتجف: لازلتما هنا؟ -نظرت الى يوسف ثم الى زوجها- لم ينصرف هذا بعد؟
: على رسلكِ، اننا نقضي وقتا ممتعا..
عادت لتحدق بيوسف، والذي بادلها نظرة هادئة.. انها تكرهه، وهو يدرك ذلك جيدا. لقد علمته اياه في طفولته.
قالت بابتسامة مستفزة: ربما تريد ان تزور المخزن مجددا، او الاصطبل.
كانت هذه الاماكن التي اعتادت ان تحبسه فيها.. احس برغبته في التقيؤ تزيد وتتضاعف.. انه لايعرف لماذا لازال هنا، ولماذا لازال يتحمل كل هذا.. انه خائف ومرتعب.. ويرغب في الهروب فحسب، لوهلة، نسي عقله انه صار بالغا، وأحس انها بكل سهولة تستطيع ان تحبسه في تلك الغرفة المظلمة اللعينة.
ظل ساكتا محافظا على ملامح كالثلج.. زفرت وهزت رأسها بيأس.. قالت مكلمة زوجها: لا تتأخر.
غادرت.. تجرع يوسف بقية كوبه ورمى سيجارته في المطفأة.. بدا أنه يستعد للنهوض..
: هكذا إذن، لن تعلق بكلمة واحدة؟
نهض يوسف ببطء، قال بنبرة هادئة: كان هذا ممتعا.
غادر برزانة دون انتظار الجواب.. ما ان اختفى من انظار ابيه حتى تعجل كثيرا في سيره نحو سيارته.. ما ان ركب حتى ضغط بكل قوته دواسة الوقود، طارت السيارة محدثة صوتا عاليا اثر احتكاك الاطارات بالارض..
طار عبر الشوارع التي كانت خالية في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل.. هز يده على المقود بتوتر شديد ثم هز ساقه مضطربا وكأنه سينفجر.. كان كل ذلك الضغط يتفجر الان في جسمه.. وفي ذهنه كانت صورة واحدة: منال.
انه خائف ومتعب ووحيد. كل ماكان يريده حضنها. رائحتها وملمس بشرتها وصوتها. كانت هي الشيء الذي يتعطش اليه.
اوقف السيارة امام المنزل ضاغطا دواسة الفرامل بكل قوته.. نزل متعجلا.. دخل المنزل بخطوات واسعة، وجدها فور دخوله الصالة.. كانت تجلس وحدها منشغلة بكتاب..
قطبت حاجبيها حين رأت وجهه وحالته.. لقد ميزتها مباشرة، انها تعرف هذه الملامح.. قالت بهدوء: لقد كنتَ في بيت ابيك.
احتدت انفاسه اكثر.. انها تفهمه.. تعرفه دون ان ينطق.. تحرك نحوها دون كلام، سحب الكتاب من يدها ورماه بعيدا.. امسك بمعصمها وسحبها لتقف.. قطبت حاجبيها ولم تقاومه، ولم يكن عندها الوقت للمقاومة، كانت يتصرف بسرعة. دفعها بخفة الى الجدار وحاصرها بجسمه مستندا بيديه الى الحائط ثم قبل شفتيها.. كانت قبلة هادئة حارة في الوقت ذاته.. انه يتنفس بسرعة كبيرة، ولاحظت رجفةً واضحة في جسمه.. بادلته قبلته دون ان تنطق.. انها لن تخاطر بمعارضته الان.. لو كان عائدا من عند عائلته فعلا فهو في حالة جنونية خطرة.. وسيكون من الغباء ان تستثير اعصابه..
ابعد يديه عن الجدار، وبحركة فاجأتها عانقها بكل قوته.. احاطها بيديه.. ارتاحت كفه على خصرها فيما كانت الاخرى في شعرها.. احست بشفتيه على رقبتها ثم باستنشاقه الطويل لها.. انه لازال مضطربا، تحس الان بنبضات قلبه القوية والمتسارعة من خلال التصاقه بها، كما تحس بحركة صدره السريعة.. لم تتحرك.. همس بنبرة هادئة، الا انها كانت نبرة امر: عانقيني.
لم تجرؤ على النقاش.. لفت ذراعيها حول رقبته.. همس: ضعي كفك في شعري..
دلكت شعره بكفها.. شدها اكثر اليه وقبل رقبتها من جديد بتلذذ كبير.. قبلة وقبلتان وثلاثة، سريعة وعميقة، وزعها على رقبتها فيما عبثت كفاه بجسمها.. بعد دقائق ابتعد عنها قليلا، واجهها والصق جسمه بجسمها ثم قبل شفتيها قبلة طويلة.. عض على شفتها السفلى قليلا قبل ان يبتعد عنها.. تحرك الى الغرفة: اتبعيني.
تنهدت بتعب.. هذا الغموض والصمت.. ماذا سيفعل بها؟

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن