تأمل يوسف المكان من حوله متوترا وهو يهز ساقه باضطراب.. كان يتجنب مواجهة الخادم، والذي كان يدعى نادر، بالنظر. لاحظ نادر توتره فسكت محاولا منحه فرصة ليهدأ..
إن للمكان حجم متوسط، وأثاثه يعد بسيطا للغاية، ولكنه بالغُ التنظيم. نافذة كبيرة مظللة كانت تحتل معظم أحد الجدران مطلة على شجيرات ورد أحمر مزروعة أمامه في الخارج.
ابتسم يوسف ابتسامة صفراء قبل أن يتكلم أخيرا بصوت مهزوز: اه.. إذن.. كيف حالك؟
ابتسم نادر هو الآخر: يوسف، استرخِ!
سحب يوسف نفسا عميقا.. تكلم بهدوء هذه المرة: صحيح أنني لم أرك منذ.. تعرف.. ذلك اليوم.. الذي تركتَ فيه المنزل. ولكنني لم أنسك. لقد امتننت لك كل يوم في حياتي. وسأظل مدينا لك حتى أموت.
رفع نادر حاجبيه.. سكت لحظات ثم أجاب بجدية: يوسف، ياعزيزي.. كيف تكون ممتنا لي؟ لقد رددتَ الدين لي وأكثر. هل تظن أنني لا أعرف ذلك؟
سكت يوسف بصدمة..: م..ماذا؟
ابتسم نادر: إن أمام راتبي التقاعدي صفرا إضافيا.. لقد تحول من ثلاث آلاف إلى ثلاثين ألفا. قيل لي أن هذا بسبب إرث أودعه أحد أقاربي، ولكنني أعرف أقاربي، وأعرف مالهم، لقد كان المال منك.زفر يوسف منزعجا.. لم يكن يريد لنادر أن يعرف هذا.. لقد عانى نادر كثيرا بعد أن طُرد من بيتهم، لقد تشرد وعائلتُه، ولاحقه حسام مانعا إياه من العمل في أي وظيفة، أي وظيفة على الإطلاق. اضطر لترك البلاد، وعمل في أعمال البناء الشاقة، وهناك خلال مدة قصيرة أصيب إصابة بالغة منعته من المتابعة فتقاعد.. وقتها كان يوسف في بدايات حصوله على الثروة.. ما إن صار معه مال حتى تتبّع مكان نادر، وتحايل ألف حيلة حتى استطاع تغيير راتبه التقاعدي وصار يدفعه بنفسه شهريا. لأن ذلك الراتب لم يكن يساوي شيئا، ولم يكن ليكفي ولا حتى بالكاد لنادر وعائلته.
ولو كان الأمر بيد يوسف لزاد الراتب أكثر بكثير، ولكنه كان مضطرا لجعل المبلغ منطقيا.قال يوسف بضيق شاعرا بالحرج: آسف. أنا آسف ياسيدي. لم أجد طريقة أخرى لمساعدتك. لم تكن لتقبل المال مني مباشرةً.
تنهد نادر: لا يا يوسف، لا تعتذر. لقد أنقذتني. لم ألاحق الموضوع أكثر وقتها لأنني عرفت أن أولادي كانوا ليهلكوا دون ذلك المال. ولهذا كان علي قبوله أيا كان مصدره. ثم.. -ابتسم- سيدي؟ أنت لم تتخل عن هذه العادة. نادني نادر فحسب!
قطب يوسف حاجبيه مستنكرا: ماذا؟ لا. مستحيل. لن أقلل من احترامك بهذه الطريقة.
ضحك نادر: حسنا إذا، نادني عم نادر. وبهذا نكون قد حللنا المشكلة.
بدا هذا حلا مقنعا ليوسف فسكت.. تابع نادر قائلا: أما بخصوص المال يا يوسف، فبعد أن كبر أولادي واستقلوا، لم أعد آخذ منه أكثر مايقوم على حاجتي. إنه محفوظ وكنت قد خصصته في وصيتي لك.
لم يرتح يوسف لهذا.. قال بانزعاج: لقد عانيتَ الأمرّين بسببي.. لماذا تمنعني من رد الجميل؟
: لقد رددتَ الجميل بالفعل يايوسف! لقد عاش أولادي برفاهية كل عمرهم بسببك!
امتعض يوسف وقال: لست أريد هذا المال، إن لم تكن تريده خصصه للجمعيات الخيرية. رجاءً. أو.. هل عندك أحفاد؟
: نعم، خمسة.
: جميل، اجعل هذا المال يغطي تكاليف تعليمهم. وأرح أبناءك من عناء الادخار كي يدرسوا أولادهم في الجامعة.
تنهد نادر: قلت لك يا يوسف، لقد أديتَ ما عليك، لستَ بحاج-
قاطعه يوسف بإصرار: أرجوك، افعل به ماشئت، لاتعده إلي.
أجاب نادر باستسلام: حسنا.. حسنا.. سأتصرف. لاعليك.
ابتسم يوسف شاكرا.. سكتا لدقائق.. تجرع يوسف من كوب الماء الموضوع أمامه، لقد جعله هذا الحوار أهدأ بعض الشيء..
قال شاردا: إن هذه الزيارة صعبة علي. صعبةٌ للغاية. لقد كنت أخطط لها منذ سنين ولم أقدر على تنفيذها. لقد أحسست أنني بمجرد رؤيتي لك سأعود طفلا خائفا. إنه شيء يشبه العودة إلى الماضي.. لم أكن مستعدا لأعود له.
: أتفهم هذا.. وهو منطقي.
تابع يوسف ببعض الخجل: ولكن.. سأعترف لك.. لست هنا لأنني أردت رؤيتك فقط. أعترف أن في الأمر بعض المصلحة.
تعجب نادر: مصلحة؟ مني أنا؟
أبعد يوسف عينيه عن نادر وحدق في كفيه عابثا بهما.. كان يمرر إبهام كفه اليمنى على خطوط باطن كفه اليسرى بحركة مضطربة.. قال بهدوء: أنت تعرف يا سي-.. أعني.. ياعم نادر.. كيف عشتُ. لقد رأيتَ ذلك بعينيك. -سحب نفسا عميقا- إنني بسبب تلك المعيشة، أواجه صعوبة كبيرة في حياتي العائلية. ولقد أحسستُ، لست أعرف لمَ، ولكنني أحسست أنني سأجد الإجابة، وسأتحسن، وسأصبح شخصا أفضل إذا زرتُك. لعل هذا لأنك كنت الرمز النظيف الوحيد في طفولتي.. لقد أحببتُك واحترمتك. لقد كنتَ البقعة البيضاء وسط كل ذلك السواد. و.. لا أعرف. لهذا جئتُ.
رفع عينيه على نادر أخيرا بتخوّف.. كانت على عيني نادر نظرةٌ حنون. بلع يوسف ريقه وعادت به ذاكرته إلى الوراء..
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...