١٥

3.4K 64 1
                                    

خرجت من الغرفة.. سحبت نفسا عميقا.. كانت بحاجة شديدة للاختلاء بنفسها الآن.. كانت تريد ان ترتاح. ان تكون بعيدة عنه.. صبرت نفسها بأنها ستحصل على هذا اخيرا..
جرت نفسها الى غرفة فارس.. فتحت الستائر وجلست بجانبه ماسحة على شعره: فارس.. صباح الخير..
لاحظت انه متعب اكثر من عادته.. تساءلت كم استغرق الامر قبل ان ينام مجددا بالامس بعد ان طرده يوسف..
بعد عدة دقائق كان في وعيه اخيرا.. جلس بعينين ناعستين..
: ماما..
همهمت متسائلة وهي تمسح على رأسه.. كانت تتوقع ان يكلمها عن ما حصل بالامس.. ولكن..
: هل يمكن أن نفطر كعك برتقال؟
ابتسمت..: بالتأكيد..
ظهر الرضى على وجهه..: وأن نفطر على الشرفة؟
: بلا شك.. ولكن بشرط ألا تتأخر في تجهزك..
هز رأسه بالإيجاب ونهض من سريره..
كان من الغريب أنه لم يذكر أي شيء يتعلق بالأمس.. شردت لحظات قبل أن تنهض لتجهز له الكعكة التي طلبها..
جهزت المائدة على الشرفة.. جلست تشرب الشاي وتحدق في السماء بشرود.. اجبرت نفسها على الابتسام حين جلس فارس إلى المائدة.. انشغلا بالحديث عن المدرسة.. دقائق وجاء يوسف بهالته المعتادة تحيط به.. سحب كرسيا وجلس..
: صباح الخير..
: صباح النور بابا..
كان صوت فارس مترددا اكثر من العادة.. لم ينظر يوسف اليه واشغل نفسه بسكب الشاي ثم بالصحيفة..
حاولت منال الهاء فارس عن قلقه.. كانت تعرف كم يؤثر عليه برود والده..
نهض يوسف بعد فترة قائلا بهدوء: لنذهب..
ظهر بعض التردد على فارس والتفت الى امه ثم قال: ماما.. هل يمكن ان توصليني انتِ اليوم؟
كان هذا موقفا سيئا.. لم تكن منال تستطيع الموافقة.. خصوصا مع نظرات يوسف المسلطة عليها.. ولم تكن تستطيع الرفض بلا تبرير..
قبل ان تنطق كان يوسف يقول بصوت هادئ مثبتا نظراته على فارس: لماذا؟
فرك كفيه: امم.. -هز كتفيه بابتسامة- اشتقت لها..
ابتسمت منال.. جلس يوسف لمستوى فارس.. قال بصوت يميل الى اللطف: لا بأس.. لا وقت الآن.. لنذهب كي لا نتأخر.. لعلنا نشتري الحلوى في طريقنا..
تنهد فارس: حسنا.. لكننا سنشتري، ليس "لعلنا"؟
نهض يوسف قائلا: إذا أسرعت.
عانق فارس أمه قبل أن يسحب حقيبته ويتبع والده الذي كان عند الباب.. خرجا..
تأملتهما منال طويلا.. مشى يوسف كعادته مع فارس حتى بابه، فتحه له، أغلقه من خلفه ثم التف ذاهبا الى بابه.. هذا السلوك الوسواسي كان يلفت نظرها منذ طفولتها..
فتح يوسف بابه ثم رفع رأسه بحركة مفاجئة للشرفة.. كانت مستندة بكتفها إلى الجدار.. يداها في جيوبها.. لم تتحرك ملامحها.. تأملها للحظات قبل أن يركب..
زفرت وغرقت في أفكارها متأملة السيارة حتى اختفت.. دخلت ورمت نفسها مباشرة على سريرها..
كانت لديها اعمال كثيرة.. لكنها لم تهتم.. تكورت في سريرها خافضة التكييف.. اغمضت عينيها وكل لحظة من ليلة الامس تتكرر امامها..
غارقة في سريرها.. وفي مشاعرها السيئة.. غفت دون ان تشعر..
__

كان الصمت سائدا في السيارة.. كعادة اي مرة يخلوان فيها..
كان يوسف شاردا.. بملامح فارس حين جاء في الليل باكيا، بملامحه حين طلب من منال مرافقته بدلا عنه.. بملامح منال فوق الشرفة..
لم يكن يعرف كيف سينتهي كل هذا.. ان ما يفعله الان مع فارس يخلق فجوة.. لكنها لن تلبث وتتحول الى هاوية عندما يكبر قليلا ويصبح اكثر وعيا..
كان يحب فارس.. ومن الغريب انه يعترف بهذا لنفسه بكل وضوح.. لكنه كان يحبه من كل قلبه.. ولهذا كان يبتعد عنه قدر استطاعته..
ان اقترابه منه يعني ايذاءه وتدميره.. كما فعل ولازال يفعل مع منال..
لم يكن يعرف حبا غير هذا.. الحب الذي يجعله يتملكها.. يؤذيها.. يكسرها ويبقيها ملوية الذراع في يده دائما.. لم يكن ليفعل هذا لفارس..
تنهد.. "هل فكرت بمراجعة طبيب نفسي بشأن السعار الجنسي الذي تعيشه"
طبيب.. ليس وكأن الفكرة لم تمر بباله.. ولكن.. هل تطور الطب النفسي ليعالج مخلوقا مثله؟
: اممم.. بابا؟
قطعه من افكاره صوت فارس المتردد..
: هممم؟
: هل.. هل انت بخير؟
كان فارس معتادا على وجه والده الجامد القاسي.. الا انه هذه المرة كانت له ملامح شاردة مهمومة غارقة في التفكير..
: بالتأكيد..
سكت فارس.. لم يلتفت له والده ابدا خلال المحادثة وظل مركزا نظره على الطريق.. كان هذا كافيا ليفهم ان لا ينطق مجددا.. حدق في النافذة حتى توقفا امام احد الدكاكين.. اشتريا الحلوى بصمت مطبق وذهبا الى المدرسة..
: كن حذرا..
هز فارس رأسه بصمت وغادر السيارة.. تنهد يوسف وهو يتذكر دون شعور منال في اول فترتها معه..
=
سقطت ارضا اثر الصفعة.. حدقت في الارض دون حركة.. دموعها كانت تجري وجسمها ينتفض مع كل شهقة..
تحرك بلا صبر وسحبها من شعرها ثم رماها فوق سريرها.. كان سريرها مبتلا بسائل سيء الرائحة.. تكرر معها هذا كثيرا.. خصوصا بعد أن تركها والدها لأكثر من شهر.. وبدأت تفهم أنه لن يعود..
كلما نامت تهاجمها كوابيس، تصرخ طويلا قبل ان تستيقظ مغطاة بالعرق والبول.. لم يكن هذا شعوريا او اراديا..
انكمشت حين لامس جسمها البلل البارد على السرير..
صرخ: هل يستحق مخلوق مثلك استيقاظي في منتصف الليل لأنه لا يستطيع الذهاب الى الحمام؟ حتى الحيوانات تحسن اختيار مكان تبولها!
اغمضت عينيها وتمتمت: اسفة..
تأوهت حين ركلها بخشونة.. قالت برجاء: انا اسفة.. لم اقصد هذا.. لا تضربني.. اسفة..
صر على اسنانه بغضب وسحبها مجددا قابضا على شعرها.. جرها الى الحمام ورماها على ارضه بقسوة: لنر..
هزت رأسها بالنفي: لا..لاتتركني هنا..
تجاهلها والتف خارجا.. اغلق مفتاح الكهرباء والباب.. انكمشت على نفسها في الظلام.. لم يفتح مجددا الا في اليوم التالي.
=

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن